التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
١
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ
٢
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة الحج بهذا النداء الموجه من الخالق - عز وجل - إلى الناس جميعاً، يأمرهم فيه بامتثال أمره، وباجتناب نهيه، حتى يفوزوا برضاه يوم القيامة.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } تعليل للأمر بالتقوى.
قال القرطبى: الزلزلة شدة الحركة، ومنه قوله - تعالى -:
{ ... وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ... } وأصل الكلمة من زل فلان عن الموضع، أى: زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه، أى: حركها وهذه اللفظة تستعمل فى تهويل الشىء".
وقال الآلوسى: "والزلزلة: التحريك الشديد، والإِزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث يزيل الأشياء من مقارها، ويخرجها من مراكزها.
وإضافتها إلى الساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله، لكن على سبيل المجاز فى النسبة كما فى قوله - تعالى -:
{ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } لأن المحرك حقيقة هو الله - تعالى -، والمفعول الأرض أو الناس، أو من إضافته إلى المفعول، لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعاً كما فى قوله: "يا سارق الليلة أهل الدار...".
والمعنى: يأيها الناس اتقوا ربكم إتقاء تاماً، بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه، وبأن تسارعوا إلى فعل ما يحبه، لأن ما يحدث فى هذا الكون عند قيام الساعة، شىء عظيم، ترتجف لهوله القلوب، وتخشع له النفوس.
وقال - سبحانه -: { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } بصيغة الإِجمال والإِبهام لهذا الشىء العظيم، لزيادة التهويل والتخويف.
ثم فصل - سبحانه - هذا الشىء العظيم تفصيلاً يزيد فى وجل القلوب فقال: { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ... }.
والضمير فى "ترونها"، يعود إلى الزلزلة لأنها هى المتحدث عنها والظرف "يوم" منصوب بالفعل تذهل، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم.
والذهول: الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف، ومنه قول عبد الله ابن رواحة - رضى الله عنه -:

ضربا يُزيل الهامَ عن مَقِيلهويُذْهِل الخليلَ عن خليله

أى: أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذى ألقمته ثديها. وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: لم قيل { مُرْضِعَةٍ } دون مرضع؟ قلت: المرضعة التى هى فى حال الإِرضاع ملقمة ثديها الصبى، والمرضع: التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإِرضاع فى حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها: أو عن الذى أرضعته وهو الطفل...".
وقوله - سبحانه -: { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } بيان لحالة ثانية تدل على شدة الزلزلة وعلى عنف آثارها.
أى: وترونها - أيضاً - تجعل كل حامل تضع حملها قبل تمامه من شدة الفزع.
ثم بين - سبحانه - حالة ثالثة لللآثار التى تدل على شدة هذه الزلزلة فقال: { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ }.
أى: وترى - أيها المخاطب - الناس فى هذا الوقت العصيب، هيئتهم كهيئة السكارى من قوة الرعب والفزع. وما هم على الحقيقة بسكارى، لأنهم لم يشربوا ما يسكرهم ولكن عذاب الله شديد. أى: ولكن شدة عذابه - سبحانه - هى التى جعلتهم بهذه الحالة التى تشبه حالة السكارى فى الذهول والاضطراب.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال: "وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق، ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذى أذهب عقولهم، وطير تمييزهم، وردهم فى نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه...".
وقد علق صاحب الانتصاف على عبارة صاحب الكشاف هذه فقال: قال أحمد: والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة، ثم يصدق أن تقول: وما هو بحمار، فتنفى عنه الحقيقة، فكذلك الآية، بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء، والسر فى تأكيده: التنبيه على أن هذا السكر الذى هو بهم فى تلك الحالة ليس من المعهود فى شىء، وإنما هو أمر لم يعهدوا مثله من قبل. والاستدراك بقوله { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } راجع إلى قوله: { وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } وكأنه تعليل لإِثبات السكر المجازى، فكأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: شدة عذاب الله - تعالى -".
هذا، وقد اختلف العلماء فى وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، فمنهم من يرى أنها تكون فى آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة ومنهم من يرى أنها تكون يوم القيامة، بعد خروج الناس من قبروهم للحساب.
وقد وفى هذه المسألة حقها الإِمام ابن كثير فقال ما ملخصه: "قال قائلون: هذه الزلزلة كائنة فى آخر عمر الدنيا. وأول أحوال الساعة.
وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة فى العرصات، بعد القيام من القبور.
ثم ساق -رحمه الله - سبعة أحاديث استدل بها أصحاب الرأى الثانى.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يقول الله - تعالى - يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فيُنَادَى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: مِن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، ثم أنتم فى الناس كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود، وإنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا - ثم قال: ثلث أهل الجنة - فكبرنا - ثم قال: شطر أهل الجنة فكبرنا" .
وعلى الرأى الأول تكون الزلزلة بمعناها الحقيقى، بأن تتزلزل الأرض وتضطرب، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها، ثم تقوم الساعة.
وعلى الرأى الثانى تكون الزلزلة المقصود بها شدة الخوف والفزع، كما فى قوله - تعالى - فى شأن المؤمنين بعد أن أحاطت بهم جيوش الأحزاب:
{ هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } فالمقصود: أصيبوا بالفزع والخوف، وليس المقصود أن الأرض تحركت واضطربت من تحتهم.
وبعد هذا الافتتاح الذى يغرس الخوف فى النفوس، ويحملها على تقوى الله وخشيته، ساقت السورة حال نوع من الناس يجادل بالباطل، ويتبع خطوات الشيطان، فقال - تعالى -: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ.. }.