التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
٣
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٤
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

و { مِنَ } فى قوله { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } للتبعيض. وقوله { يُجَادِلُ } من الجدال بمعنى المفاوضة على سبيل المنازعة والمخاصمة والمغالبة، مأخوذ من جدلت الحبل. أى: أحكمت فتله، كأن المتجادلين يحاول كل واحد منهما أن يقوى رأيه، ويضعف رأى صاحبه.
والمراد بالمجادلة فى الله: المجادلة فى ذاته وصفاته وتشريعاته.
وقوله: { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من الفاعل فى يجادل. وهى حال موضحة لما تشعر به المجادلة هنا من الجهل والعناد.
أى: ومن الناس قوم استولى عليهم الجهل والعناد، لأنهم يجادلون وينازعون فى ذات الله وصفاته، وفى وحيه وفى أحكامه بغير مستند من علم عقلى أو نقلى، وبغير دليل أو ما يشبه الدليل.
وقوله - سبحانه - { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } معطوف على ما قبله. والمريد والمتمرد: البالغ أقصى الغاية فى الشر والفساد، يقال: مرد فلان على كذا - من باب نصر وظرف - إذا عتا وتجبر واستمر على ذلك.
وأصل المادة للملاسة والتجرد، ومنه قولهم: شجرة مرداء أى ملساء لا ورق لها. وغلام أمرد. أى: لم ينبت فى ذقنه شعر..
أى: يجادل فى ذات الله وصفاته بغير علم يعلمه، ويتبع فى جداله وتطاوله وعناده، كل شيطان عاد عن الخير، متجرد للفساد، لا يعرف الحق أو الصلاح، ولا هما يعرفانه، وإنما هو خالص للشر والغى والمنكر من القول والفعل.
وتقييد الجدال بكونه بغير علم، يفهم منه أن الجدال بعلم لإِحقاق الحق وإبطال الباطل، سائغ محمود، ولذا قال الإِمام الفخر الرازى: "هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة"، فالمجادلة الباطلة هى المرادة من قوله - تعالى -:
{ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً.. } والمجادلة الحقة هى المرادة من قوله: { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. } ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة هذا المجادل بالباطل، والمتبع لكل شيطان مريد، فقال: { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } .
أى: كتب على هذا الشيطان، وقضى عليه "أنه من تولاه" أى اتخذه وليا وقدوة له "فأنه يضله" أى: فشأن هذا الشيطان أن يضل تابعه عن كل خير "ويهديه إلى عذاب السعير" أى: وأن شأن هذا الشيطان - أيضا - أن يهدى متبعه إلى طريق النار المستعرة، وفى التعبير بقوله: { وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } تهكم بمن يتبع هذا الشيطان، إذ سمى - سبحانه - قيادة الشيطان لأتباعه هداية..
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا فى شأن النضر بن الحارث أو العاص بن وائل، أو أبى جهل.. وكانوا يجادلون النبى - صلى الله عليه وسلم - بالباطل.
ومن المعروف أن نزول هاتين الآيتين فى شأن هؤلاء الأشخاص، لا يمنع من عمومهما فى شأن كل من كان على شاكلة هؤلاء الأشقياء، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولذا قال صاحب الكشاف: "وهى عامة فى كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز، من الصفات والأفعال. ولا يرجع إلى علم. ولا يعض فيه بضرس قاطع، وليس فيه اتباع البرهان، ولا نزول على النصفة، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل".
ثم ساق - سبحانه - أهم القضايا التى جادل فيها المشركون بغير علم، واتبعوا فى جدالهم خطوات الشيطان، وهى قضية البعث، وأقام الأدلة على صحتها، وعلى أن البعث حق وواقع فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ... }.