التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
٣٨
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
٣٩
ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
٤٠
ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأُمُورِ
٤١
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما بين ما يلزم فى الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وما كان من صد الكفار عنه، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد. ويؤمن معه التمكن من الحج فقال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ .. }.
ومفعول "يدافع" محذوف. وجاء التعبير بقوله - تعالى - { يُدَافِعُ } بصيغة المفاعلة، للمبالغة فى الدفاع والدفع، أو للدلالة على أن ذلك حاصر للمؤمنين كلما حصل من الكافرين عدوان عليهم.
أى: إن الله - تعالى - بفضله وكرمه يدافع عن المؤمنين أعداءهم وخصومهم، فيرد كيدهم فى نحورهم.
وصح أن يكون { يُدَافِعُ } بمعنى يدفع، ويؤيده قراءة ابن كثير وأبى عمرو. أى: أن الله - تعالى - يدفع السوء عن عباده المؤمنين الصادقين، ويجعل العاقبة لهم على أعداءهم.
فالجملة الكريمة بشارة للمؤمنين، وتقوية لعزائمهم حتى يقبلوا على ما شرعه الله لهم من جهاد أعدائهم، بثبات لا تردد معه، وبأمل عظيم فى نصر الله وتأييده.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } تعليل لوعده - سبحانه - للمؤمنين بالدفاع عنهم، وبجعل العاقبة لهم.
والخوان: هو الشديد الخيانة، والكفور: هو المبالغ فى كفره وجحوده، فاللفظان كلاهما صيغة مبالغة.
قال الآلوسى: وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك، لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر....
أى: إن الله - تعالى - يدافع عن المؤمنين لمحبته لهم، ويبغض هؤلاء الكافرين الذين بلغوا فى الخيانة والكفر اقصى الدركات.
وأوثر التعبير بقوله - تعالى - { لاَ يُحِبُّ } على قوله: يبغض أو يكره، للإِشعار بأن المؤمنين هم أحباء الله - تعالى -، وللتعريض بهؤلاء الكافرين الذين تجاوزوا كل حد فى كراهيتهم لأهل الحق.
ثم رخص - سبحانه - للمؤمنين بأن يقاتلوا فى سبيله فقال: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ... }.
وقوله - تعالى - { أُذِنَ } فعل ماض مبنى للمجهول مأخوذ من الإِذن بمعنى الإِباحة والرخصة. والمقصود إباحة مشروعية القتال، وقد قالوا: بأن هذه الآيات أول ما نزل في شأن مشروعية القتال.
أخرج الإِمام أحمد والترمذى عن ابن عباس قال: لما خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فنزلت هذه الآيات.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي { أُذِنَ } بالبناء الفاعل. والمأذون لهم فيه هو القتال، وهو محذوف فى قوة المذكور بدليل قوله { يُقَاتَلُونَ } والباء فى قوله { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } للسببية.
أى: أذن الله - تعالى - للمؤمنين، ورخص لهم، بأن يقاتلوا أعداءهم الذين ظلموهم، وآذوهم، واعتدوا عليه، بعد أن صبر هؤلاء المؤمنون على أذى أعدائهم صبرا طويلا.
قال الآلوسى: والمراد بالموصول أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - الذين فى مكة، فقد نقل الواحدى وغيره، أن المشركين كانوا يؤذونهم، وكانوا يأتون النبى - صلى الله عليه وسلم - بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإنى لم أومر بالقتال حتى هاجر - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية، وهى أول آية نزلت فى القتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية.
وقوله - تعالى -: { وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وعد منه - سبحانه - للمؤمنين بالنصر وحض لهم على الإِقدام على الجهاد فى سبيله بدون تردد أو وهن.
أى: وإن الله - تعالى - لقادر على أن ينصر عباده المؤمنين. وعلى أن يمكن لهم فى الأرض، وعلى أن يجعلهم الوارثين لأعدائهم الكافرين.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: قوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } أى: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه يريد من عباده أن يبلوا جهدهم فى طاعته، كما قال - تعالى -:
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.. } وإنما شرع - سبحانه - الجهاد فى الوقت الأليق به، لأنهم لما كانوا بمكة، كان المشركون أكثر عددا. فلو أمر المسملون بالقتال لشق ذلك عليهم...
فلما استقروا بالمدينة. وصارت لهم دار إسلام، ومعقلا يلجأون إليه شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل فى ذلك...
وقوله - سبحانه -: { ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ... } بيان لبعض الأسباب التى من أجلها شرع الله الجهاد فى سبيله.
أى: إن الله - تعالى - لقدير على نصر المؤمنين الذين أخرجهم الكافرون من ديارهم بغير حق، وبغير أى سبب من الأسباب، سوى أنهم كانوا يقولون ربنا الله - تعالى - وحده، ولن نعبد من دونه إلها آخر.
أى: ليس هناك ما يوجب إخراجهم - فى زعم المشركين - سوى قولهم ربنا الله.
ثم حرض - سبحانه - المؤمنين على القتال فى سبيله، بأن بين لهم أن هذا القتال يقتضيه نظام هذا العالم وصلاحه، فقال - تعالى -: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً }.
والمراد بالدفع: إذن الله المؤمنين فى قتال المشركين. والمراد بقوله: { بَعْضَهُمْ } الكافرون. وبقوله: { بِبَعْضٍ } المؤمنون.
والصوامع: جمع صومعة، وهى بناء مرتفع يتخذه الرهبان معابد لهم.
والبيع: جمع بيعة - بكسر الباء - وهى كنائس النصارى التى لا تختص بالرهبان.
والصلوات: أماكن العبادة لليهود.
أى: ولولا أن الله - تعالى - أباح للمؤمنين قتال المشركين، لعاث المشركون فى الأرض فسادا، ولهدموا فى زمن موسى وعيسى أماكن العبادة الخاصة بأتباعهما، ولهدموا فى زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المساجد التى تقام فيها الصلاة.
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ... } أى: ولولا ما شرعه الله - تعالى - للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك. وعطلوا ما بناه أهل الديانات من مواضع العبادات ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم. وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن فى القتال فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ... } الآية أى: لولا الجهاد والقتال لتغلب أهل الباطل على أهل الحق فى كل أمة....
فالآية الكريمة تفيد أن الله - تعالى - قد شرع القتال لإِعلاء الحق وإزهاق الباطل، ولولا ذلك لاختل هذا العالم، وانتشر فيه الفساد.
والتعبير بقوله - تعالى -: { لَّهُدِّمَتْ } بالتشديد للإِشعار بأن عدم مشروعية القتال، يؤدى إلى فساد ذريع، وإلى تحطيم شديد لأماكن العبادة والطاعة لله - عز وجل -.
وقدم الصوامع والبيع والصلوات على المساجد، باعتبار أنها أقدم منها فى الوجود، أو للانتقال من الشريف إلى الأشرف.
ثم ساق - سبحانه - بأسلوب مؤكد سنة من سننه التى لا تتخلف فقال: { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }.
أى: والله لينصرن - سبحانه - من ينصر دينه وأولياءه، لأنه - تعالى - هو القوى على كل فعل يريده، العزيز الذى لا يغالبه مغالب، ولا ينازعه منازع.
وقد أنجز - سبحانه - وعده وسنته، فسلط عباده المؤمنين من المهاجرين والأنصار، على أعدائه، فأذلوا الشرك والمشركين وحطموا دولتى الأكاسرة والقياصرة، وأورثهم أرضهم وديارهم.
ثم وصف - سبحانه - هؤلاء المؤمنين الذين وعدهم بنصره بأكرم الصفات ليميزهم عن غيرهم فقال: { ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأُمُورِ }.
أى: ولينصرن الله - تعالى - هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، والذين من صفاتهم أنهم إذا ما مكنا لهم فى الأرض، ونصرناهم على أعدائهم، شكروا لنا ما أكرمناهم به، فأقاموا الصلاة فى مواقيتها بخشوع وإخلاص، وقدموا زكاة أموالهم للمحتاجين، وأمروا غيرهم بالمعروف ونهوه عن المنكر، ولله - تعالى - وحده عاقبة الأمور ومردها ومرجعها فى الآخرة، فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
فالآية الكريمة تبين أن أولى الناس بنصر الله، هم هؤلاء المؤمنون الصادقون، الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر...
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى -:
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } وقوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ.. } وبعد أن أذن الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين فى القتال، وبشرهم بالنصر.. أتبع ذلك بتسليته - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من حزن بسبب تكذيب المشركين له ووبخ - سبحانه - أولئك المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال - تعالى -: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ... }.