التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
٥٥
ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٥٦
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيٰتِنَا فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٥٧
وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٥٨
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
٥٩
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الجمل: "لما ذكر - سبحانه - حال الكافرين أولا، ثم حال المؤمنين ثانيا، عاد إلى شرح حال الكافرين، فهو رجوع لقوله: { وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } والمرية بالكسر والضم. لغتان مشهورتان.
والضمير فى قوله: { مِّنْهُ } يعود إلى القرآن الكريم، أو إلى ما جاء به الرسول من عند ربه، وقيل إلى ما ألقاه الشيطان.
وقد رجح ابن جرير كونه للقرآن فقال: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال: هى كناية من ذكر القرآن الذى أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله:
{ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ.. } أقرب منه من ذكر قوله { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ.. } والمعنى ولا يزال الذين كفروا فى شك وريب مما أوحاه الله إليك من قرآن، بسبب قسوة قلوبهم، واستيلاء الجحود والعناد على نفوسهم.
وسيستمرون على هذه الحال { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ } أى: القيامة { بَغْتَةً } أى: فجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } أى: لا مثل له فى هوله وشدة عذابه ولا يوم بعده، إذ كل يوم يلد ما بعده عن الأيام إلا هذا اليوم وهو يوم القيامة فإنه لا يوم بعده.
قال ابن كثير: "وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } قال مجاهد: قال أبى بن كعب: هو يوم بدر.
وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير.
وفى رواية عن عكرمة ومجاهد هو يوم القيامة لا ليلة له، وكذا قال الضحاك والحسن.
وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد، ولهذا قال: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } كقوله:
{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته، وشمول قهره لغيره فقال: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ... } والتنوين فى قوله { يَوْمَئِذٍ } عوض عن جملة.
أى: السلطان القاهر، والتصرف الكامل، يوم تأتيهم الساعة بغتة، أو يوم يأتيهم عذابها يكون لله - تعالى - وحده، كما أن الحكم بين الناس جميعا يكون له وحده - سبحانه - { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } الأعمال { ٱلصَّالِحَاتِ } يكونون فى هذا اليوم { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا } التى جاءتهم بها رسلنا { فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى: لهم عذاب ينالون بسببه ما ينالون من هوان وذل.
{ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ } من ديارهم { فِي سَبِيلِ } إعلاء كلمة الله ونصرة دينه { ثُمَّ قُتِلُوۤاْ } أى: قتلهم الكفار فى الجهاد { أَوْ مَاتُواْ } أى: على فراشهم.
هؤلاء وهؤلاء { لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ } - تعالى - بفضله وكرمه { رِزْقاً حَسَناً } يرضيهم ويسرهم يوم يلقونه. حيث يبوئهم جنته.
قال - تعالى -:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .. } وقال - سبحانه - { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } تذييل قصد به بيان أن عطاءه - سبحانه - فوق كل عطاء، لأنه يرزق من يشاء بغير حساب، ويعطى من يشاء دون أن ينازعه منازع، أو يعارضه معارض، أو ينقص مما عنده شىء.
وقوله - تعالى -: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ.. } استئناف مقرر لما قبله. و "مدخلا" أى: إدخالا، من أدخل يدخل - بضم الياء - وهو مصدر ميمى للفعل الذى قبله، والمفعول محذوف.
أى: ليدخلنهم الجنة إدخالا يرضونه.
وقرأ نافع (مدخلا) - بفتح الميم - على أنه اسم مكان أريد به الجنة، أى: ليدخلنهم مكانا يرضونه وهو الجنة.
{ وَإِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - { لَعَلِيمٌ } بالذى يرضيهم، وبالذى يستحقه كل إنسان من خير أو شر { حَلِيمٌ } فلا يعاجل بالعقوبة، بل يستر ويعفو عن كثير.
ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يقع عليهم العدوان بالنصر على من ظلمهم، فقال - تعالى -: { ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ... }.