التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ
٧
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال أبو حيان فى البحر: لما ذكر - سبحانه - من يجادل فى قدرة الله بغير علم، وكان جدالهم فى الحشر والمعاد، ذكر دليلين واضحين على ذلك. أحدهما: فى نفس الإِنسان وابتداء خلقه. وتطوره فى أطوار سبعة، وهى: التراب، والنطفة، والعلقة، والمضغة، والإِخراج طفلا، وبلوغ الأشد، والتوفى أو الرد إلى أرذل العمر.
والدليل الثانى: فى الأرض التى يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا، فإذا ورد الشرع بوقوعه، وجب التصديق به، وأنه واقع لا محالة.
والمراد بالناس هنا: المشركون وكل من كان على شاكلتهم فى إنكار أمر البعث واستبعاده، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب.
والمعنى: يأيها الناس إن كنتم فى شك من أمر إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة، فانظروا وتفكروا فى مبدأ خلقكم، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك، لأن الذى أوجدكم الإِيجاد الأول. وخلقكم من التراب، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى، إذ الإِعادة - كما يعرف كل عاقل - أيسر من ابتداء الفعل.
وقد قرب - سبحانه - هذا المعنى فى أذهانكم فى آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وأتى - سبحانه - بأن المفيدة للشك فقال: { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ } مع أن كونهم فى ريب أمر محقق تنزيلاً للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيهاً لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور فى غير مواضعها.
ووجه الإِتيان بفى الدالة على الظرفية، للإِشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
قال الآلوسى: "وقوله { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } دليل جواب الشرط، أو هو الجواب بتأويل، أى: إن كنتم فى ريب من البعث، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم، فإنا خلقناكم من تراب، وخلقهم من تراب فى ضمن خلق أبيهم آدم منه...".
وقال بعض العلماء ما ملخص: والتحقيق فى معنى قوله - تعالى { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ }: أنه - سبحانه - خلق أباهم آدم منه، ثم خلق من آدم زوجه حواء، ثم خلق الناس منهما عن طريق التناسل.
فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب؛ لأن الفروع تتبع الأصل. وعلى ذلك يكون خلقهم من تراب هو الطور الأول..".
ثم بين - سبحانه - الطور الثانى من أطوار خلق الإِنسان فقال: { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وهذا اللفظ مأخوذ من النطف - بفتح النون مع التشديد وإسكان الطاء - بمعنى السيلان والتقاطر. يقال: نطفت القربة، إذا تقاطر الماء منها بقلة.
والنطفة تطلق فى اللغة: على الماء القليل، والمراد بها هنا: الماء المختلط من الرجل والمرأة عند الجماع، والمعبر عنه بالمنى.
وقوله { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } هو الطور الثالث. والعلقة جمعها علق، وهى قطعة من الدم جامدة، تتحول إليها النطفة.
وقوله: { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } هو الطور الرابع، والمضغة قطعة صغيرة من اللحم تحول إليها العلقة.
وقوله - سبحانه - { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } صفة للمضغة.
والمراد بالمخلقة: التامة الخلقة، السالمة من العيوب، والمراد بغير المخلقة: ما ليست كذلك كأن تكون ناقصة الخلقة.
وقد اكتفى بهذا المعنى صاحب الكشاف فقال: "والمخلقة" المستواة الملساء من النقصان والعيب: يقال: خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء. كأن الله - تعالى - يخلق المضغ متفاوتة. منها. ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت، تفاوت الناس فى خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم...".
وقيل: "مخلقة" أى: مستبينة الخلق، ظاهرة التصوير. "وغير مخلقة" أى: لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها كالسقط الذى هو مضغة ولم تظهر صورته الإِنسانية بعد.
وقيل: "مخلقة" أى: نفخ فيها الروح. "وغير مخلقة" أى: لم ينفخ فيها الروح.
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب الكشاف واكتفى به أولى بالقبول، لأنه هو المشهور من كلام العرب. فهم يقولون: حجر أخلق أى: أملس مصمت لا يؤثر فيه شىء، وصخرة خلقاء، أى: ليس بها تشويه أو كسر.
وقوله - تعالى -: { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } متعلق بقوله: { خَلَقْنَاكُمْ } أى: خلقناكم على هذا النحو العجيب، وفى تلك الأطوار البديعة. لنبين لكم كمال قدرتنا، وبليغ حكمتنا. وأننا لا يعجزنا إعادة كل حى إلى الحياة بعد موته.
وحذف مفعول "نبين" للإِشعار بأن أفعاله - تعالى - الدالة على كمال قدرته، لا يحيط بها وصف، ولا تمدها عبارة..
أى: لنبين لكم عن طريق المشاهدة، ما يدل على كمال قدرتنا دلالة يعجز الوصف عن الإِحاطة بها.
وقوله - تعالى -: { وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الناس بعد تمام خلقهم، وتوارد تلك الأطوار عليهم.
أى: ونقر ونثبت فى أرحام الأمهات ما نشاء إقراره وثبوته فيها من الأجنة والأحمال، إلى أجل معلوم عندنا. وهو الوقت المحدد للولادة والوضع، وما لم نشأ إقراره من الحمل لفظته الأرحام وأسقطته، إذ كل شىء بمشيئتنا وإرادتنا.
وقوله - تعالى -: { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } بيان للطور الخامس من أطوار خلق الإِنسان.
أى: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذى حددناه، طفلاً صغيراً. أى: أطفالاً صغاراً، وإنما جاء مفرداً باعتبار إرادة الجنس الشامل للواحد والمتعدد، او باعتبار كل واحد منهم، وهو حال من ضمير المخاطبين.
ومن الأساليب العربية المعهودة، أن الاسم المفرد إذا كان اسم جنس. يكثر إطلاقه على الجمع، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أى: أئمة. وقوله - سبحانه - { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً.. } أى: أنفسا، ومن هذا القبيل قول الشاعر:

وكان بنو فزارة شَرَّ عمِّفكنت لهم كشر بنى الأخينا

أى: شر أعمام.
وقوله تعالى - { ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ } بيان للطور السادس، والأشد: قوة الإِنسان وشدته واشتعال حرارته، من الشدة بمعنى الارتفاع والقوة، يقال: شد النهار إذا ارتفع، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع، أو جمع لا واحد له، أو جمع شدة - كأنعم ونعمة -.
قال الآلوسى: "والجملة علة لنخرجكم، وهى معطوفة على علة أخرى مناسبة لها.
كأنه قيل: ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا أشدكم، أى كمالكم فى القوة والعقل والتمييز .. وقيل: علة لمحذوف. والتقدير: ثم نمهلكم لتبلغوا أشدكم...
وتقديم التبيين "لنبين لكم" على ما بعده، مع أن حصوله بالفعل بعد الكل، للإِيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات.
وإعادة اللام فى "لتبلغوا" مع تجريد "نقر، ونخرج" عنها، للإِشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإِقرار والإِخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة".
وقوله - سبحانه -: { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } بيان للطور السابع والأخير.
أى: منكم - أيها الناس - من يبلغ أشده فى هذه الحياة، ومنكم من يموت قبل ذلك، ومنكم من يعيش إلى أرذل العمر أى: أخسه وأدونه، فيصير من بعد علمه بالأشياء وفهمه لها، لا علم له ولا فهم، شأنه فى ذلك شأن الأطفال.
قال - تعالى -:
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } فالآية الكريمة تصور أطوار خلق الإِنسان ومراحل حياته أكمل تصوير، للتنبيه على مظاهر قدرة الله - تعالى - وعلى أن البعث حق وصدق.
وبعد إقامة هذا الدليل من نفس الإِنسان وتطور خلقه على صحة البعث، ساق - سبحانه - الدليل الثانى عن طريق مشاهدة الأرض وتنقلها من حال إلى حال، فقال - تعالى - { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }.
وقوله: { هَامِدَةً } أى: يابسة، يقال: همدت الأرض تهمد - بضم الميم - هموداً، إذا يبست.
ومعنى: "اهتزت": تحركت، يقال: هز فلان الشىء فاهتز، إذا حركه فتحرك.
ومعنى: "ربت" زادت بسبب تداخل الماء والنبات فيها، يقال: ربا الشىء يربو ربوا، إذا زاد ونما، ومنه الربا والربوة.
أى: وترى - أيها العاقل - ببصرك الأرض يابسة لا نبات فيها، فإذا ما أنزلنا عليها بقدرتنا الماء، تحركت بسبب خروج النبات منها، وانتفخت بسبب ما يتخللها من الماء والنبات، وأنبتت بعد ذلك من كل صنف بهيج نضر حسن المنظر.
وشبيه بهذه الآية فى أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم، بقدرة الله - تعالى - وإرادته، قوله - عز وجل -
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على وحدانيته وقدرته فقال: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
واسم الإِشارة يعود إلى المذكور من خلق الإِنسان وإحياء الأرض بعد موتها..
أى: ذلك الذى ذكرناه لكم دليل واضح، وبرهان قاطع، على أن الله - تعالى - هو الإله الحق، الذى يجب أن تخلصوا له العبادة والطاعة، لأنه هو وحده الخالق لكل شىء، ولأنه هو وحده الذى يعيد الموتى إلى الحياة، ولأنه هو وحده الذى لا يعجزه شىء.
وخص - سبحانه - إحياء الموتى بالذكر، مع أن من جملة الأشياء المقدور عليها. للتصريح بما هو محل النزاع وهو البعث، ولدحض شبه المنكرين له.
ثم أكد - سبحانه - ذلك تأكيداً دامغاً فقال: { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ } وما تشتمل عليه من حساب وثواب وعقاب { آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أى: لا ريب ولا شك فى إتيانها فى الوقت الذى يريده الله - تعالى -.
{ وَأَنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - وحده { يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } ليحاسبهم على أعمالهم.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأوضحها على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، وعلى أن البعث حق وصدق وأنه آت لا ريب فيه.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك نموذجين لصنفين من الناس، أحدهما: متكبر مغرور، والآخر مذبذب لا ثبات له فى عقيدة فقال - تعالى -: { ومِنَ ٱلنَّاسِ.. }.