التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
٦٣
لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٦٤
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٦٥
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
٦٦
-الحج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والاستفهام فى قوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً... } للتقرير.
وقوله: { مُخْضَرَّةً } أى: ذات خضرة بسبب النبات الذى ينبته الله فيها بعد نزول المطر عليها.
والمعنى: لقد رأيت ببصرك وعلمت ببصيرتك أيها المخاطب أن الله - تعالى - قد أنزل من السماء ماء، فتصير الأرض بسببه ذات خضرة، وفى ذلك أعظم الأدلة على كمال قدرته، وعظيم رحمته بعباده.
وقال - سبحانه - { فَتُصْبِحُ } بصيغة المضارع، لاستحضار صورة الاخضرار، الذى اتصف به الأرض بعد نزول المطر عليها، وصيغة الماضى لا تفيد دوام استحضارها، لأن الفعل الماضى يفيد انقطاع الشىء.
ولم ينصب هذا الفعل المضارع فى جواب الاستفهام، لأن الاستفهام تقريرى فهو فى معنى الخبر، والخبر لا جواب له، فكأنه قيل: لقد رأيت، ولأن السببية هنا غير متحققة، إذ الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض، وإنما اخضرارها يكون بسبب نزول المطر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك فقال: فإن قلت: هلا قيل: فأصبحت؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع؟.
قلت: لنكتة فيه وهى إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم علىَّ فلان عام كذا، فأروح وأغدوا شاكرا له. ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟.
قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره. شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من استم بالعلم فى علم الإِعراب وتوقير أهله.
وقال بعض العلماء ما ملخصه: فإن قيل: كيف قال فتصبح مع أن اخضرار الأرض قد يتأخر عن صبيحة المطر.
فالجواب: أن تصبح هنا بمعنى تصير، والعرب تقول: فلان أصبح غنيا، أى: صار غنيا، أو أن الفاء للتعقيب، وتعقيب كل شىء بحسبه، كقوله - تعالى -:
{ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً ... } مع أن بين كل شيئين أربعين يوما، كما جاء فى الحديث الصحيح...
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أى: إن الله - تعالى - لطيف بعباده.
ومن مظاهر لطفه بهم، إنزاله المطر على الأرض للانتفاع بما تنبته من كل زوج بهيج، وهو - تعالى - خبير بأحوال عباده، لا يعزب عن عمله مثقال ذرة من هذه الأحوال.
فإنه - سبحانه - { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } خلقا وملكا وتصرفا { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْغَنِيُّ } عن كل ما سواه { ٱلْحَمِيدُ } أى: المستوجب للحمد من كل خلقه.
وقوله - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... } بيان لألوان أخرى من الغم التى أنعم بها على بنى آدم.
أى: لقد علمت - أيضا - أيها العاقل، أن الله - تعالى - سخر لكم يا بنى آدم - ما فى الأرض من دواب وشجر وأنهار، وغير ذلك مما تحتاجونه لحياتكم، وسخر لمنفعتكم السفن التى تجرى فى البحر بتقديره وإرادته وإذنه.
وهو - سبحانه - الذى يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض، فتهلك من فيها، ولو شاء لأذن لها فى الوقوع فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها.
قال الجمل: وقوله: { إِلاَّ بِإِذْنِهِ }: الظاهر أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وهو لا يقع إلا فى الكلام الموجب إلا أن قوله: { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ } فى قوة النفى. أى: لا يتركها تقع فى حالة من الأحوال إلى فى حالة كونها ملتبسة بمشيئة الله - تعالى -، فالباء للملابسة.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى: لكثير الرأفة والرحمة بهم، ومن علامات ذلك أنه سخر لهم ما فى الأرض وسخر لهم الفلك، وأمسك السماء عنهم، ولم يسقطها عليهم.
وشبيه بهذه الاية قوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بما هو أجلها وأعظمها فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاكُمْ } أى: بعد أن كنتم أمواتا فى بطون أمهاتكم، وقبل أن ينفخ بقدرته الروح فيكم. { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } أى: بعد انقضاء آجالكم فى هذه الحياة { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أى: عند البعث والحساب.
{ إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ } أى: لكثير الجحود والكفران لنعم ربه التى لا تحصى.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا متعددة من الأدلة على قدرته - سبحانه -، كما ذكرت ألوانا من نعمه على عباده، ومن ذلك إنزال الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرة بعد أن كانت يابسة. وتسخير ما فى الأرض للإِنسان، وتسخير الفلك لخدمته ومنفعته، وإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بمشيئته - تعالى - وإيجادنا من العدم بقدرته ورحمته.
وبعد أن عرضت السورة الكريمة دلائل قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده أتبعت ذلك ببيان أنه - سبحانه - قد جعل لكم أمة شرعة ومنهاجا، وأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يمضى فى طريقة لتبليغ رسالة الله - تعالى - دون أن يلتفت إلى ممارات المشركين له، وأن يفوض الحكم فيهم إليه - سبحانه - فهو العليم بكل شىء، فقال - تعالى -: { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا... }.