التفاسير

< >
عرض

فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
٥٣
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ
٥٤
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ
٥٥
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ
٥٦
-المؤمنون

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الفاء فى قوله - تعالى -: { فَتَقَطَّعُوۤاْ } لترتيب حالهم وما هم عليه من تفرق وتنازع واختلاف، على ما سبق من أمرهم بالتقوى، واتباع ما جاءهم به الرسل.
وضمير الجمع يعود إلى الأقوام السابقين الذين خالفوا رسلهم، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً.
وقوله { زُبُراً } حال من هذا الضمير. ومفرده زُبْرَة - كغرفة - بمعنى: قطعة. والمراد به هنا: طائفة من الناس. والمراد بأمرهم: أمر دينهم الذى هو واحد فى الأصل.
أى: أن هؤلاء الأقوام الذين جاء الرسل لهدايتهم، لم يتبعوا دين رسلهم بل تفرقوا فى شأنه شيعاً وأحزاباً، فمنهم أهل الكتاب الذين قال بعضهم: عزير ابن الله، وقال بعضهم: المسيح ابن الله، ومنهم المشركون الذين عبدوا من دون الله - تعالى - أصناماً لا تضر ولا تنفع، وصار كل حزب من هؤلاء المعرضين عن الحق، مسروراً بما هو عليه من باطل، وفرحاً بما هو فيه من ضلال.
والآية القرآنية بأسلوبها البديع، تسوق هذا التنازع من هؤلاء الجاهلين فى شأن الدين الواحد، فى صورة حسية، يرى المتدبر من خلالها، أنهم تجاذبوه فيما بينهم، حتى قطعوه فى أيديهم قطعاً، ثم مضى كل فريق منهم بقطعته وهو فرح مسرور، مع أنه - لو كان يعقل - لما انحدر إلى هذا الفعل القبيح، ولما فرح بعمل شىء من شأنه أن يحزن له كل عاقل.
والخطاب فى قوله - تعالى -: { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ } للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير المنصوب "هم" للمشركين.
والغمرة فى الأصل: الماء الذى يغمر القامة ويسترها، إذ المادة تدل على التغطية والستر. يقال: غمر الماء الأرض إذا غطاها وسترها. ويقال: هذا رجل غُمْر - بضم الغين وإسكان الميم - إذا غطاه الجهل وجعله لا تجربة له بالأمور. ويقال: هذا رجل غِمْر - بكسر الغين - إذا غطى الحقد قلبه والمراد بالغمرة هنا: الجهالة والضلالة، والمعنى: لقد أديت - أيها الرسول - الرسالة، ونصحت لقومك. وبلغتهم ما أمرك الله - تعالى - بتبليغه، وعليك الآن أن تترك هؤلاء الجاحدين المعاندين فى جهالاتهم وغفلتهم وحيرتهم { حَتَّىٰ حِينٍ } أى: حتى يأتى الوقت الذى حددناه للفصل فى أمرهم بما تقتضيه حكمتنا.
وجاء لفظ "حين" بالتنكير، لتهويل الأمر وتفظيعه.
ثم تأخذ السورة الكريمة بعد ذلك فى السخرية منهم لغفلتهم عن هذا المصير المحتوم، الذى سيفاجئهم بما لا يتوقعون. فيقول: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }.
والهمزة فى قوله { أَيَحْسَبُونَ } للاستفهام الإِنكارى. و "ما" موصولة، وهى اسم "أن" وخبرها جملة "نسارع لهم ..." والرابط مقدر أى: به.
أى: أيظن هؤلاء الجاهلون. أن ما نعطيهم إياه من مال وبنين، هو من باب المسارعة منا فى إمدادهم بالخيرات لرضانا عنهم وإكرامنا لهم؟ كلا: ما فعلنا معهم ذلك لتكريمهم، وإنما فعلنا ذلك معهم لاستدراجهم وامتحانهم، ولكنهم لا يشعرون بذلك. ولا يحسون به لانطماس بصائرهم ولاستيلاء الجهل والغرور على نفوسهم.
فقوله - سبحانه - { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } إضراب انتقالى عن الحسبان المذكور وهو معطوف على مقدر ينسحب إليه الكلام.
أى: ما فعلنا ذلك معهم لإكرامنا إياهم كما يظنون، بل فعلنا ما فعلنا استدارجا لهم، ولكنهم لا شعرو لهم ولا إحساس، وما هم إلا كالأنعام بل هم أضل.
لذا قال بعض الصالحين: من يعص الله - تعالى - ولم ير نقصاناً فيما أعطاه - سبحانه - من الدنيا. فليعلم أنه مستدرج قد مكر به.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -:
{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } وبعد أن صورت السورة الكريمة حالة أصحاب القلوب التى غمرها الجهل والعمى، أتبعت ذلك بإعطاء صورة وضيئة مشرقة لأصحاب القلوب الوجلة المؤمنة، المسارعة فى الخيرات فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم... }.