التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٤
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-النور

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { يَرْمُونَ } من الرمى، وأصله القذف بشىء صلب أو ما يشبهه تقول: رمى فلان فلانا بحجر. إذا قذفه به. والمراد به هنا: الشتم والقذف بفاحشة الزنا، أو ما يستلزمه كالطعن فى النسب.
قال الإمام الرازى: وقد أجمع العلماء على أن المراد هنا: الرمى بالزنا.
وفى الآية أقوال تدل عليه. أحدها: تقدم ذكر الزنا. وثانيها: أنه - تعالى - ذكر المحصنات، وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد بالرمى رميهن بضد العفاف، وثالثها: قوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يعنى على صحة ما رموهن به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا بالزنا، ورابعها: انعقاد الإِجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمى بغير الزنا. فوجب أن يكون المراد هنا هو الرمى بالزنا...".
و "المحصنات" جمع محصنة، والإحصان فى اللغة بمعنى المنع، يقال: هذه درع حصينة، أى: مانعة صاحبها من الجراحة. ويقال هذا موضع حصين، أى: مانع من يريده بسوء.
والمراد بالمحصنات هنا: النساء العفيفات البعيدات عن كل ريبة وفاحشة.
وسميت المرأة العفيفة بذلك. لأنها تمنع نفسها من كل سوء.
قالوا: ويطلق الإِحصان على المرأة والرجل، إذا توفرت فيهما صفات العفاف. والإِسلام، والحرية، والزواج.
وأنما خص - سبحانه - النساء بالذكر هنا: لأن قذفهن أشنع، والعار الذى يلحقهن بسبب ذلك أشد، وإلا فالرجال والنساء فى هذه الأحكام سواء.
وقوله - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ... } مبتدأ، أخبر عنه بعد ذلك بثلاث جمل، وهى قوله: "فاجلدوهم...، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون".
والمعنى أن الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به، فاجلدوا - أيها الحكام - هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة، عقابا لهم على ما تفوهوا به من سوء فى حق هؤلاء المحصنات، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبدا بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو بىء منها. وأولئك هم الفاسقون. أى: الخارجون على أحكام شريعة الله - تعالى - وعلى آدابها السامية.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات.
أولاها: حسية، وتتمثل فى جلدهم ثمانين جلدة، وهى عقوبة قريبة من عقوبة الزنا.
وثانيتها: معنوية، وتتمثل فى عدم قبول شهادتهم، بأن تهدر أقوالهم، ويصيرون فى المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين، الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم، لأنهم انسخلت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم.
وثالثتها: دينية، وتتمثل فى وصف الله - تعالى - لهم بالفسق. أى: بالخروج عن طاعته - سبحانه - وعن آداب دينه وشريعته.
وما عاقب الله - تعالى - هؤلاء القاذفين فى أعراض الناس، بتلك العقوبات الرادعة، إلا لحكم من أهمها: حماية أعراض المسلمين من ألسنة السوء، وصيانتهم من كل ما يخدش كرامتهم، ويجرح عفافهم.
وأقسى شىء على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة، أن تلصق بهم التهم الباطلة. وعلى رأس الرذائل التى تؤدى إلى فساد المجتمع، ترك ألسنة السوء, تنهش أعراض الشرفاء، دون أن تجد هذه الألسنة من يخرسها أو يردعها.
وقد اتفق الفقهاء على أن الاستثناء فى قوله - تعالى - { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ } يعود على الجملة الأخيرة. بمعنى أن صفة الفسق لا تزول عن هؤلاء القاذفين للمحصنات إلا بعد توبتهم وصلاح حالهم.
أى: وأولئك القاذفون للمحصنات دون أن يأتوا بأربعة شهداء على صحة ما قالوه. هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله - تعالى -، إلا الذين تابوا منهم من بعد ذلك توبة صادقة نصوحا، وأصحلوا أحوالهم وأعمالهم، فإن الله - تعالى - كفيل بمغفرة ذنوبهم، وبشمولهم برحمته.
كما اتفقوا - أيضا - على أن هذا الاستثناء لا يعود إلى العقوبة الأولى وهى الجلد، لأن هذه العقوبة يجب أن تنفذ عليهم، متى ثبت قذفهم للمحصنات، حتى ولو تابوا وأصلحوا.
والخلاف إنما هو فى العقوبة الوسطى وهى قبول شهادتهم، فجمهور الفقهاء يرون صحة عودة الاستثناء عليها بعد التوبة، فيكون المعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فاقبلوا شهادتهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الاستثناء لا يرجع إلى قبول شهادتهم، وإنما يرجع فقط إلى العقوبة الأخيرة وهى الفسق، فهم لا تقبل شهادتهم أبدا أى: طول مدة حياتهم، حتى وإن تابوا وأصلحوا.
وقد فصل القول فى هذه المسألة الإمام القرطبى فقال ما ملخصه: "تضمنت الآية ثلاثة أحكام فى القاذف: جلده، ورد شهادته أبدا، وفسقه.
فالاستثناء غير عامل فى جلده وإن تاب - أى أنه يجلد حتى ولو تاب.
وعامل فى فسقه بإجماع. أى: أن صفة الفسق تزول عنه بعد ثبوت توبته.
واختلف الناس فى عمله فى رد الشهادة. فقال أبو حنيفة وغيره: "لا يعمل الاستثناء فى رد شهادته. وإنما يزول فسقه عند الله - تعالى -. وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة. ولو تاب وأكذب نفسه، ولا بحال من الأحوال.
وقال الجمهور: الاستثناء عامل فى رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردها لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا، قبل الحد وبعده. وهو قول عامة الفقهاء.
ثم اختلفوا فى صورة توبته، فمذهب عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - والشعبى وغيره: أن توبته لا تكون - مقبولة - إلا إذا كذب نفسه فى ذلك القذف الذى حد فيه.
وقالت فرقة منها مالك وغيره: توبته أن يصلح ويحسن حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه، والاستغفار منه، وترك العود إلى مثله".
ويبدو لنا أن ما أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هو الأولى بالقبول، لأن اعتراف القاذف بكذبه، فيه محو لآثار هذا القذف، وفيه تبرئة صريحة للمقذوف، وهذه التبرئة تزيده انشراحا وسرورا، وترد إليه اعتباره بين أفراد المجتمع.
كما يبدو لنا أن الأًَوْلى فى هذه الحالة أن تقبل شهادة القاذف، بعد هذه التوبة التى صاحبها اعتراف منه بكذبه فيما قال: لأن إقدامه على تكذيب نفسه قرينة على صدق توبته وصلاح حاله.
وهكذا يحمى الإسلام أعراض أتباعه، بهذه التشريعات الحكيمة، التى يؤدى اتباعها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن حكم القذف بصفة عامة، إلى الحديث عن حكم القذف إذا ما حدث بين الزوجين، فقال - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ... }.