التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٢
لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ
٦٤
-النور

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى ابن إسحاق فى سبب نزول هذه الآيات ما ملخصه: أنه لما كان تجمع قريش وغطفان فى غزوة الأحزاب، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم خندقا حول المدينة وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك، رجال من المنافقين، وجعلوا يُوَرُّون - أى يستترون - بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن. وجعل الرجل من المسلمين إذا ناتبه النائبة من الحاجة التى لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذن فى اللحوق لحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته، رجع إلى ما كان فيه من العمل رغبة فى الخير واحتسابا له. فأنزل الله هذه الآيات فى المؤمنين وفى المنافقين.
والمراد بالأمر الجامع فى قوله: { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ }: الأمر الهام الذى يستلزم اشتراك الجماعة فى شأنه، كالجهاد فى سبيل الله، وكالإِعداد لعمل من الأعمال العامة التى تهم المسلمين جميعا.
والمعنى: إن من شأن المؤمنين الصادقين، الذين آمنوا بالله ورسوله حق الإِيمان أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر جامع من الأمور التى تقتضى اشتراكهم فيه، لم يفارقوه ولم يذهبوا عنه، حتى يستأذنوه فى المفارقة أو فى الذهاب، لأن هذا الاستئذان دليل على قوة الإِيمان، وعلى حسن أدبهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال الآلوسى: وقوله: { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ... } معطوف على { آمَنُواْ } داخل معه فى حيز الصلة، والحصر باعتبار الكمال. أى: إنما الكاملون فى الإِيمان الذين آمنوا بالله - تعالى -، وبرسوله صلى الله عليه وسلم من صميم قلوبهم، وأطاعوا فى جميع الأحكام التى من جملتها ما فصل من قبل. وإذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر مهم يجب اجتماعهم فى شأنه كالجمعة والأعياد والحروب، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع... لم يذهبوا عنه صلى الله عليه وسلم { حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ } فى الذهاب فيأذن لهم...
وخص - سبحانه - الأمر الجامع بالذكر، للإِشعار بأهميته ووجوب البقاء معه صلى الله عليه وسلم حتى يعطيهم الإِذن بالانصراف، إذ وجودهم معه يؤدى إلى مظاهرته صلى الله عليه وسلم ومعاونته فى الوصول إلى أفضل الحلول لهذا الأمر الهام.
ثم مدح - سبحانه - الذين لا يغادرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كانوا معه على أمر جامع حتى يستأذنوه فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
أى: إن الذين يستأذنونك فى تلك الأحوال الهامة، والتى تستلزم وجودهم معك، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله حق الإِيمان، لأن هذا الاستئذان فى تلك الأوقات دليل على طهارة نفوسهم، وصدق يقينهم، وصفاء قلوبهم.
ثم بين - سبحانه - وظيفته - صلى الله عليه وسلم فقال: { فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى: فإذا استأذنك هؤلاء المؤمنون فى الانصراف، لقضاء بعض الأمور والشئون التى هم فى حاجة إليها، فأنت مفوض ومخير فى إعطاء الإِذن لبعضهم وفى منعه عن البعض الآخر، إذ الأمر فى هذه المسألة متروك لتقديرك - أيها الرسول الكريم -.
وقوله - تعالى - { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱلله } فيه إشارة إلى أنه كان الأولى بهؤلاء المؤمنين، أن يبقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينتهوا من حل هذا الأمر الجامع الذى اجتمعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله، وحتى يأذن لهم صلى الله عليه وسلم فى الانصراف دون أن يطلبوا منه ذلك، فإن الاستئذان قبل البت فى الأمر الهام الذى يتعلق بمصالح المسلمين جميعا، غير مناسب للمؤمنين الصادقين، ويجب أن يكون فى أضيق الحدود، وأشد الظروف، ومع كل ذلك، فالله - تعالى - واسع المغفرة لعباده عظيم الرحمة بهم.
ثم أكد الله - تعالى - وجوب التوقير والتعظيم لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال: { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.. }.
ولأهل العلم فى تفسير هذه الآية أقوال من أهمها: أن المصدر هنا وهو لفظ "دعاء" مضاف إلى مفعوله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه مدعو، فيكون المعنى:
لا تجعلوا - أيها المؤمنون - دعاءكم الرسول إذا دعوتموه، ونداءكم له إذا ما ناديتموه، كدعاء أو نداء بعضكم لبعض، وإنما عليكم إذا ما ناديتموه أن تنادوه بقولكم، يا نبى الله، أو يا رسول الله، ولا يليق بكم أن تنادوه باسمه مجردا، بأن تقولوا يا محمد.
كما أن من الواجب عليكم أن تخفضوا أصواتكم عند ندائه توقيرا واحتراما له صلى الله عليه وسلم والمتتبع للقرآن الكريم، يرى أن الله - تعالى - لم يناد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا، وإنما ناداه بقوله: يٰأيها المدثر، يٰأيها الرسول، يٰأيها النبى....
وإذا كان اسمه صلى الله عليه وسلم قد ورد فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع، فإن وروده لم يكن فى معرض النداء، وإنما كان فى غيره كما فى قوله - تعالى -
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ.. } فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن أن ينادوا أو يخاطبوا النبى صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا، كما يخاطب بعضهم بعضا.
ومن العلماء من يرى أن المصدر هنا مضاف إلى فاعله، فيكون المعنى: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا، بل يجب عليكم متى دعاكم لأمر أن تلبوا أمره بدون تقاعس أو تباطؤ.
وعلى كلا التفسيرين فالآية الكريمة تدل على وجوب توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه. وشبيه بها قوله - تعالى -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ثم حذر - سبحانه - المنافقين من سوء عاقبة أفعالهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
وقد هنا للتحقيق. ويتسللون من التسلل، وهو الخروج فى خفاء مع تمهل وتلصص.
وقوله { لِوَاذاً } مصدر فى موضع الحال أى: ملاوذين. والملاوذة معناها: الاستتار بشىء مخافة من يراك، أو هى الروغان من شىء إلى شىء على سبيل الخفاء.
أى: إن الله - تعالى - عليم بحال هؤلاء المنافقين الذين يخرجون من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فى خفاء واستتار: بحيث يخرجون من الجماعة قليلا قليلا، يستتر بعضهم ببعض حتى يخرجوا جميعا.
قالوا: وكان المنافقون تارة يخرجون إذا ارتقى الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر. ينظرون يمينا وشمالا. ثم يخرجون واحدا واحدا. وتارة يخرجون من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة يفرون من الجهاد يعتذرون بالمعاذير الباطلة.
وعلى أية حال فالآية الكريمة تصور خبث نفوسهم، والتواء طباعهم، وجبن قلوبهم، أبلغ تصوير، حيث ترسم أحوالهم وهم يخرجون فى خفاء متسللين، حتى لا يراهم المسلمون.
والفاء فى قوله - تعالى -: { فَلْيَحْذَرِ... } لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والضمير فى قوله: { عَنْ أَمْرِهِ } يعود إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو إلى الله - تعالى - والمعنى واحد، لأن الرسول مبلغ عن الله - تعالى -.
والمخالفة معناها: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله.
والمعنى: فليحذر هؤلاء المنافقون الذين يخالفون أمر النبى صلى الله عليه وسلم ويصدون الناس عن دعوته. ويتباعدون عن هديه، فليحذروا من أن تصيبهم فتنة، أى: بلاء وكرب يتربت عليه افتضاح أمرهم، وانكشاف سرهم، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يستأصلهم عن آخرهم، ولعذاب الآخرة اشد وأبقى.
قال القرطبى: وبهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب، ووجهها أن الله - تعالى - قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: { أن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فتحرم مخالفته، ويجب امتثال أمره".
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.
أى: له - سبحانه - ما فى السمٰوات والأرض من موجودات خَلقا ومُلكا وتصرفا وإيجاداً { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } أيها المكلفون من طاعة أو معصية، ومن استجابة لأمره أو عدم استجابة.
{ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } أى: ويعلم - سبحانه - أحوال خلقه جميعا يوم يرجعون إليه يوم القيامة. فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
{ وَٱللَّهُ } - تعالى - { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } بحيث لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.