التفاسير

< >
عرض

إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً
١٢
وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً
١٣
لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً
١٤
قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً
١٥
لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً
١٦
-الفرقان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله تعالى : { إِذَا رَأَتْهُمْ.. }. الضمير فيه يعود إلى "سعيرا" والتغيظ فى الأصل: إظهار الغيظ، وهو شدة الغضب الكامن فى القلب.
والزفير: ترديد النفس من شدة الغم والتعب حتى تنتفخ منه الضلوع، فإذا ما اشتد كان له صوت مسموع.
والمعنى: أن هؤلاء الكافرين الذين كذبوا بالساعة، قد أعتدنا لهم بسبب هذا التكذيب نارا مستعرة، إذا رأتهم هذه النار من مكان بعيد عنها. سمعوا لها غليانا كصوت من اشتد غضبه، وسمعوا لها زفيرا. أى: صوتا مترددا كأنها تناديهم به.
فالآية الكريمة تصور غيظ النار من هؤلاء المكذبين تصويرا مرعبا، يزلزل النفوس ويخيف القلوب.
والتعبير بقوله - تعالى -: { مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يزيد هذه الصورة رعبا وخوفا، لأنها لم تنتظرهم إلى أن يصلوا إليها، بل هى بمجرد أن تراهم من مكان بعيد - والعياذ بالله - يسمعون تغيظها وزفيرها وغضبها عليهم، وفرحها بإلقائهم فيها.
قال الآلوسى: وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر، وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد، إذ لا امتناع فى أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار، فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية، وكقوله - تعالى -:
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وقوله: صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: "شكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأَذِنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف.." .
ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما يستقرون فيها فقال: { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }.
أى: أن النار إن رأت هؤلاء المجرمين سمعوا لها ما يزعجهم ويفزعهم، { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } أى: وإذا ما طرحوا فيها فى مكان ضيق منها، حالة كونهم { مُّقَرَّنِين } أى: مقيدين بالأغلال بعضهم مع بعض أو مع الشياطين الذين أضلوهم.
{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ } أى: تنادوا هنالك فى ذلك المكان بقولهم { ثُبُوراً } أى: هلاكا وخسرانا يقال فلان ثبره الله - تعالى - أى: أهلكه إهلاكا لا قيام له منه.
أى: يقولون عندما يلقون فيها، يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك، فإنك أرحم بنا مما نحن فيه.
ووصف - سبحانه - المكان الذى يلقون فيه بالضيق، للإشارة إلى زيادة كربهم، فإن ضيق المكان يعجزهم عن التفلت والتململ. هنا يسمعون من يقول لهم على سبيل الزجر والسخرية المريرة، { لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً }. أى: اتركوا اليوم طلب الهلاك الواحد. واطلبوا هلاكا كثيرا لا غاية لكثرته، ولا منتهى لنهايته.
قال صاحب الكشاف: قوله: { وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } أى: أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، وإنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم ما أعده - سبحانه - لعباده المتقين، فقال: { قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً }.
واسم الإشارة. ذلك يعود إلى ما ذكر من العذاب المهين لهم والاستفهام للتقريع والتهكم.
والعائد إلى الموصول محذوف، أى: وعدها الله - تعالى - للمتقين، وإضافته الجنة إلى الخلد للمدح وزيادة السرور للذين وعدهم الله - تعالى - بها.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين، أذلك العذاب المهين الذى أعد لكم خير، أم جنة الخلد التى وعدها الله - تعالى - للمتقين، والتى { كَانَتْ لَهُمْ } بفضل الله وكرمه { جَزَآءً } على أعمالهم الصالحة { وَمَصِيراً } طيبا يصيرون إليه.
{ لَّهُمْ فِيهَا } فى تلك الجنة { مَا يَشَآءُونَ } أى: ما يشاءونه من خيرات وملذات حالمة كونهم { خَالِدِينَ } فيها خلودا أبديا.
{ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } أى: كان ذلك العطاء الكريم الذى تفضلنا به على عبادنا المتقين ووعدناهم به، من حقهم أن يسألونا تحقيقه لعظمه وسمو منزلته، كما قال - تعالى - حكاية عنهم فى آية أخرى
{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } وعلى هذا المعنى يكون قولا { مَّسْئُولاً } بمعنى جديرا أن يسأل عنه المؤمنون لعظم شأنه.
ويجوز أن يكون السائلون عنه الملائكة، كما فى قوله - تعالى -:
{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ.. } ويرى بعضهم أن المعنى، كان ذلك العطاء للمؤمنين وعدا منا لهم، ونحن بفضلنا وكرمنا سننفذ هذا الوعد، قال - تعالى -: { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ... } هذا، وقد تكلم العلماء هنا عن المراد بلفظ "خير" فى قوله - تعالى - { قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ ٱلْخُلْدِ } وقالوا: إن هذا اللفظ صيغة تفضيل، والمفضل عليه هنا وهو العذاب لا خير فيه البته، فكيف عبر - سبحانه - بلفظ خير؟
وقد أجابوا عن ذلك بأن المفاضلة هنا غير مقصودة، وإنما المقصود هو التهكم بهؤلاء الكافرين الذين آثروا الضلالة على الهداية، واستحبوا الكفر على الإيمان.
قال أبو حيان -رحمه الله -: و "خير" هنا ليست تدل على الأفضلية، بل هى على ما جرت به عادة العرب فى بيان فضل الشىء، وخصوصيته بالفضل دون مقابلة. كقول الشاعر: فشر كما لخير كما الفداء... وكقول العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله - تعالى - حكاية عن يوسف - عليه السلام -:
{ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن حالهم عندما يعرضون هم وآلهتهم للحشر والحساب يوم القيامة، وقد وقفوا جميعا أمام ربهم للسؤال والجواب، قال - تعالى -: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ... }.