التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ
١٧
قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً
١٨
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
١٩
-الفرقان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى -: { وَيَوْمَ } منصوب على المفعولية بفعل مقدر، والمقصود من ذكر اليوم: تذكيرهم بما سيحدث فيه من أهوال حتى يعتبروا ويتعظوا، والضمير فى "يحشرهم" للكافرين الذين عبدوا غير الله - تعالى -.
وقوله: { وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } معطوف على مفعول "يحشرهم" والمراد بهؤلاء الذين عبدوهم من دون الله: الملائكة وعزير وعيسى وغيرهم من كل معبود سوى الله - تعالى -.
والمعنى: واذكر لهم - أيها الرسول الكريم - حالهم لعلهم أن يعتبروا يوم نحشرهم جميعا للحساب والجزاء يوم القيامة، ونحشر ونجمع معهم جميع الذين كانوا يعبدونهم غيرى.
ثم نوجه كلامنا لهؤلاء المعبودين من دونى فأقول لهم: أانتم - أيها المعبودون - كنتم السبب فى ضلال عبادى عن إخلاص العبادة لى، بسبب إغرائكم لهم بذلك أم هم الذين من تلقاء أنفسهم قد ضلوا السبيل، بسبب إيثارهم الغى على الرشد، والكفر على الإيمان؟
والسؤال للمعبودين إنما هو من باب التقريع للعابدين، وإلزامهم الحجة وزيادة حسرتهم، وتبرئة ساحة المعبودين.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } وقوله - عز وجل -: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ.. } قال الإمام الرازى ما ملخصه: فإن قيل: إنه - سبحانه - عالم فى الأزل بحال المسئول عنه فما فائدة السؤال؟.
والجواب: هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين، كما قال - سبحانه - لعيسى:
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } ولأن أولئك المعبودين لما برءوا أنفسهم وأحالوا ذلك الضلال عليهم، صار تبرُّؤُ المعبودين عنهم أشد فى حسرتهم وحيرتهم.
وقال - سبحانه - { أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } ولم يقل. ضلوا عن السبيل، للإشعار بأنهم قد بلغوا فى الضلال أقصاه ومنتهاه.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أجاب به المعبودون فقال: { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً }.
أى قال المعبودون لخالقهم - عز وجل -: "سبحانك" أى: ننزهك تنزيها تاما عن الشركاء وعن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك، وليس للخلائق جميعا أن يعبدوا أحدا سواك. ولا يليق بنا نحن أو هم أن نعبد غيرك، وأنت يا مولانا الذى أسبغت عليهم وعلى آبائهم الكثير من نعمك. "حتى نسوا الذكر" أى: حتى تركوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك "وكانوا" بسبب ذلك "قوما بورا" أى: هلكى، جمع بائر من البوار وهو الهلاك.
قال القرطبى: وقوله { بُوراً } أى: هلكى قاله ابن عباس... وقال الحسن "بورا" أى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها عن الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شَهْر بن حَوْشَب: البوار: الفساد والكساد، من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفساد... وهو اسم مصدر يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.
وهكذا، يتبرأ المعبودون من ضلال عابديهم، ويوبخونهم على جحودهم لنعم الله - تعالى - وعلى عبادتهم لغيره. ويعترفون لخالقهم - عز وجل - بأنه لا معبود بحق سواه.
وهنا يوجه - سبحانه - خطابه إلى هؤلاء العابدين الجهلاء الكاذبين فيقول: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً... }.
أى: قال الله - تعالى - لهؤلاء الكافرين على سبيل التقريع والتبكيت: والآن لقد رأيتم تكذيب من عبدتموهم لكم، وقد حق عليكم العذاب بسبب كفركم وكذبكم، وصرتم لا تملكون له "صرفا" أى: دفعا بأية صورة من الصور. وأصل الصرف: رد الشىء من حالة إلى حالة أخرى، ولا تملكون له - أيضا - "نصرا" أى فردا من أفراد النصر لا من جهة أنفسكم، ولا من جهة غيركم، بل لقد حل بكم العذاب حلولا لا فكاك لكم منه بأى وسيلة من الوسائل.
"ومن يظلم منكم" أى: ومن يكفر بالله - تعالى - منكم أيها المكلفون بالإيمان "نذقه عذابا كبيرا" لا يقادر قدره فى الخزى والهوان.
قال صاحب الكشاف: هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام - فى قوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } حسنة رائعة، خاصة إذا انضم إليها الالتفات، وحذف القول، ونحوها قوله - تعالى -:
{ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ .. } وقول القائل:

قالوا خراسان أقصى ما يُراد بنا ثم القُفُول فقد جئنا خراسانا

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت الحجة على الكافرين بطريقة تخرس ألسنتهم، وتجعلهم أهلا لكل ما يقع عليهم من عذاب أليم.
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الرد على شبهات أعدائه فتقول: { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ... }.