التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً
٢١
يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً
٢٢
وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً
٢٣
أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
٢٤
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً
٢٥
ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً
٢٦
وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً
٢٧
يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً
٢٨
لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً
٢٩
-الفرقان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: اعلم أن قوله - تعالى -: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } هو الشبهة الرابعة لمنكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحاصلها: لماذا لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق فى دعواه، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا..
والرجاء: الأمل والتوقع لما فيه خير ونفع. وفسره بعضهم بمجرد التوقع الذى يشمل ما يسر وما يسوء، وفسره بعضهم هنا بأن المراد به: الخوف.
والمراد بلقائه - سبحانه -: الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء.
أى: وقال الكافرون الذين لا أمل عندهم فى لقائنا يوم القيامة للحساب والجزاء لأنهم ينكرون ذلك، ولا يبالون به، ولا يخافون أهواله. قالوا - على سبيل التعنت والعناد -:
هلا أنزل علينا الملائكة لكى يخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أو هلا نرى ربنا جهرة ومعاينة ليقول لنا إن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من عندى!
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ .. أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً } أى: ليشهدوا بصدقك، وقد رد الله - تعالى - عليهم بقوله: { لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً }.
والعتو: تجاوز الحد فى الظلم والعدوان. يقال عتا فلان يعتو عتوا، إذا تجاوز حده فى الطغيان.
أى: والله لقد أضمر هؤلاء الكافرون الاستكبار عن الحق فى أنفسهم المغرورة، وتجاوزوا كل حد فى الطغيان تجاوزا كبيرا، حيث طلبوا مطالب هى أبعد من أن ينالوها بعد الأرض عن السماء. وصدق الله إذ يقول:
{ ... إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ.. } ووصف - سبحانه - عتوهم بالكبر للدلالة على إفراطهم فيه، وأنهم قد وصلوا فى عتوهم إلى الغاية القصوى منه.
ثم بين - سبحانه - الحالة التى يرون فيها الملائكة فقال: { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ }.
أى: لقد طلب هؤلاء الظالمون نزول الملائكة عليهم، ورؤيتهم لهم. ونحن سنجيبهم إلى ما طلبوه ولكن بصورة أخرى تختلف اختلافا كليا عما يتوقعونه، إننا سنريهم الملائكة عند قبض أرواحهم وعند الحساب بصورة تجعل هؤلاء الكافرين يفزعون ويهلعون. بصورة لا تبشرهم بخير ولا تسرهم رؤيتهم معها، بل تسوءهم وتحزنهم، كما قال - تعالى -:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.. } وكما قال - سبحانه -: { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف. لبيان حالهم الشنيعة عندما تنزل عليهم الملائكة. بعد بيان تجاوزهم الحد فى الطغيان وفى طلب ما ليس من حقهم.
والمراد بالملائكة هنا: ملائكة العذاب الذين يقبضون أرواحهم، والذين يقودونهم إلى النار يوم القيامة.
وقال - سبحانه -: { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ... } ولم يقل: يوم تنزل الملائكة، للإيذان من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على الطريقة التى طلبوها، بل على وجه آخر فيه ما فيه من العذاب المهين لهؤلاء الكافرين.
وجاء نفى البشرى لهم بلا النافية للجنس للمبالغة فى نفى أى بارقة تجعلهم يأملون فى أن ما نزل بهم من سوء، قد يتزحزح عنهم فى الحال أو الاستقبال.
قال الجمل فى حاشيته: وقوله { لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } هذه الجملة معمولة لقول مضمر. أى: يرون الملائكة يقولون لا بشرى. فالقول حال من الملائكة وهو نظير التقدير فى قوله - تعالى -:
{ ... وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم... } وكل من الظرف والجار والمجرور خبر عن لا النافية للجنس.
وقوله - تعالى -: { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } تأكيد لما قبله من أنه لا خير لهؤلاء الكافرين من وراء رؤيتهم للملائكة.
والحجر - بكسر الحاء وفتحها - الحرام، وأصله المنع. ومحجورا صفة مؤكدة للمعنى، كما فى قولهم: موت مائت. وليل أليل. وحرام محرم.
قال الآلوسى: وهى - أى: حجرا محجورا - كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور، وهجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، حيث يطلبون من الله - تعالى - أن يمنع المكروه فلا يلحقهم، فكأن المعنى، نسأل الله - تعالى - أن يمنع ذلك منعا، ويحجره حجرا.
وقال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الذى يخاف منه القتل فى الجاهلية فى الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا. أى: حرام عليك التعرض لى فى هذا الشهر فلا يبدأ بشر.
والقائلون لهذا القول يرى بعضهم أنهم الملائكة، فيكون المعنى: تقول الملائكة للكفار حجرا محجورا. أى: حراما محرما أن تكون لكم اليوم بشرى. أو أن يغفر الله لكم، أو أن يدخلكم جنته.
وقد رجح ابن جرير ذلك فقال ما ملخصه: وإنما اخترنا أن القائلين هم الملائكة من أجل أن الحجر هو الحرام. فمعلوم أن الملائكة هى التى تخبر أهل الكفر، أن البشرى عليهم حرام...
ويبدو لنا أنه لا مانع من أن يكون هذا القول من الكفار، فيكون المعنى: أن هؤلاء الكفار الذين طلبوا نزول الملائكة عليهم ليشهدوا لهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرونهم عند الموت أو عند الحساب يقولون لهم بفزع وهلع: "حجرا محجورا" أى: حراما محرما عليكم أن تنزلوا بنا العذاب، فنحن لم نرتكب ما نستحق بسببه هذا العذاب المهين، ولعل مما يشهد لهذا المعنى قوله - تعالى -:
{ ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ بَلَىٰ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ } وعلى كلا الرأيين فالجملة الكريمة تؤكد سوء عاقبة الكافرين.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك وعيدا آخر لهؤلاء الكافرين فقال: { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }.
والهباء: الشىء الدقيق الذى يخرج من النافذة مع ضوء الشمس شبيها بالغبار.
والمنثور: المتفرق فى الجو بحيث لا يتأتى جمعه أو حصره.
أى: وقدمنا وقصدنا وعمدنا - بإرادتنا وحكمتنا إلى ما عمله هؤلاء الكافرون من عمل صالح فى الدنيا - كالإِحسان إلى الفقراء، والإِنفاق فى وجوه الخير - فجعلناه باطلا ضائعا، ممزقا كل ممزق، لأنهم فقدوا شرط قبوله عندنا، وهو إخلاص العبادة لنا.
فقد شبه - سبحانه - أعمالهم الصالحة فى الدنيا فى عدم انتفاعهم بها يوم القيامة - بالهباء المنثور، الذى تفرق وتبدد وصار لا يرجى خير من ورائه لحقارته وتفاهته.
ثم بين - سبحانه - ما سيكون عليه أصحاب الجنة من نعيم مقيم يوم القيامة فقال: { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }.
والمستقر: المكان الذى يستقر فيه الإِنسان فى أغلب وقته. والمقيل: المكان الذى يؤوى إليه فى وقت القيلولة للاستراحة من عناء الحر.
أى: "أصحاب الجنة يومئذ" أى: يوم القيامة "خير مستقرا" أى: خير مكانا ومنزلا فى الجنة، مما كان عليه الكافرون فى الدنيا من متاع زائل، ونعيم حائل "وأحسن مقيلا" أى: وأحسن راحة وهناء ومأوى، مما فيه الكافرون من عذاب مقيم.
وقد استنبط بعض العلماء. من هذه الآية أن حساب أهل الجنة يسير، وأنه ينتهى فى وقت قصير، لا يتجاوز نصف النهار. قالوا: لأن قوله - تعالى - { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } يدل على أنهم فى وقت القيلولة، يكونون فى راحة ونعيم، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى -:
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } وأما أهل النار - والعياذ بالله - فهم ليسوا كذلك لأن حسابهم غير يسير.
وقد ساق ابن كثير فى هذا المعنى آثارا منها أن سعيد الصواف قال: بلغنى أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم ليقيلون فى رياض الجنة.
ثم وصف - سبحانه - بعض الأهوال التى تحدث فى هذا اليوم فقال: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً }.
وقوله { تَشَقَّقُ } أصله تتشقق بمعنى تتفتح. والباء يصح أن تكون بمعنى عن، وأن تكون للسببية أى: بسبب طلوعه منها، وأن تكون للحال، أى: ملتبسة بالغمام.
والغمام: اسم جنس جمعى لغمامة. وهى السحاب الأبيض الرقيق سمى بذلك لأنه يغم ما تحته، أى: يستره ويخفيه.
والمعنى: واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - أهوال يوم القيامة. يوم تتفتح السماء وتتشقق بسبب طلوع الغمام منها، ونزول الملائكة منها تنزيلا عجيبا غير معهود.
قال صاحب الكشاف: ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها جعل الغمام كأنه الذى تشقق به السماء، كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها، ونظيره قوله - تعالى -:
{ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ.. } فإن قلت: أى فرق بين قولك: انشقت الأرض بالنبات، وانشقت عنه؟ قلت: معنى انشقت به، أن الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه: أن التربة ارتفعت عند طلوعه.
والمعنى: أن السماء تتفتح بغمام يخرج منها، وفى الغمام الملائكة ينزلون وفى أيديهم صحف أعمال العباد.
وقوله - تعالى -: { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً }.
لفظ "الملك" مبتدأ، و "يومئذ" ظرف للمبتدأ و "الحق" نعت له و "للرحمن" خبره.
أى: الملك الثابت الذى لا يزول، ولا يشاركه فيه أحد للرحمن يومئذ، وكان هذا اليوم عسيرا على الكافرين، لشدة الهول والعذاب الذى يقع عليهم فيه.
وخص - سبحانه - ثبوت الملك له فى هذا اليوم بالذكر، مع أنه - تعالى - هو المالك لهذا الكون فى هذا اليوم وفى غيره، للرد على الكافرين الذين زعموا أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة، ولبيان أن ملك غيره - سبحانه - فى الدنيا. إنما هو ملك صورى زائل، أما الملك الثابت الحقيقى فهو لله الواحد القهار.
قال ابن كثير: وفى الصحيح
"أن الله يطوى السموات بيمينه، ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول: أنا الملك. أنا الديان. أين ملوك الأرض أين الجبارون. أين المتكبرون" .
ثم صور - سبحانه - ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حسرة وندامة، تصويرا بليغا، مؤثرا فقال: { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً }.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات أن عقبة بن أبى معيط دعا النبى صلى الله عليه وسلم لحضور طعام عنده، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم لا آكل من طعامك حتى تنطق بالشهادتين. فنطق بهما. فبلغ ذلك صديقه أمية بن خلف أو أخاه أبى بن خلف، فقال له: يا عقبة بلغنى أنك أسملت. فقال له: لا. ولكن قلت ما قلت تطييبا لقلب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأكل من طعامى. فقال له: كلامك على حرام حتى تفعل كذا وكذا بمحمد صلى الله عليه وسلم ففعل الشقى ما أمره به صديقه الذى لا يقل شقاوة عنه.
أما عقبة فقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتله فى غزوة بدر وأما أبى بن خلف فقد طعنه النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد طعنة لم يبق بعدها سوى زمن يسير ثم هلك.
وعلى اية حال فإن الآيات وإن كانت قد نزلت فى هذين الشقيين. فإنها تشمل كل من كان على شاكلتهما فى الكفر والعناد، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وعض اليدين كناية عن شدة الحسرة والندامة والغيظ، لأن النادم ندما شديدا، يعض يديه. وليس أحد أشد ندما يوم القيامة من الكافرين.
قال - تعالى -:
{ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } والمعنى: واذكر - أيها العاقل - يوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء، يوم يعض الظالم على يديه من شدة غيظه وندمه وحسرته.
ويقول فى هذا اليوم { يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً }.
أى: يا ليتنى سلكت معه طريق الحق الذى جاء به، واتبعته فى كل ما جاء به من عند ربه.
{ يَٰوَيْلَتَىٰ } أى: ثم يقول هذا الظالم يا هلاكى أقبل فهذا أوان إقبالك، فهذه الكلمة تستعمل عند وقوع داهية دهياء لا نجاة منها، وكأن المتحسر ينادى ويلته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من يفهم نداءه.
{ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } أى: ليتنى لم أتخذ فلانا الذى أضلنى فى الدنيا صديقا وخليلا لى. والمراد بفلان: كل من أضل غيره وصرفه عن طريق الحق، ويدخل فى ذلك دخولا أوليا أبى بن خلف.
{ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } أى: والله لقد أضلنى هذا الصديق المشئوم عن الذكر أى: عن الهدى بعد إذ جاءنى الرسول صلى الله عليه وسلم فالجملة الكريمة تعليل لتمنيه المذكور، وتوضيح لتملله. وأكده بلام القسم للمبالغة فى بيان شدة ندمه وحسرته.
والمراد بالذكر هنا: ما يشمل القرآن الكريم، وما يشمل غيره من توجيهات النبى صلى الله عليه وسلم وفى التعبير بقوله: { بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } إشعار بأن هدى الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى هذا الشقى، وكان فى إمكانه أن ينتفع به.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } أى: وكان الشيطان دائما وأبدا. خذولا للإِنسان. أى: صارفا إياه عن الحق، محرضا له على الباطل، فإذا ما احتاج الإِنسان إليه خذله وتركه وفر عنه وهو يقول: إنى برىء منك.
يقال: خذل فلان فلانا، إذا ترك نصرته بعد أن وعده بها.
وهكذا تكون عاقبة الذين يتبعون أصدقاء السوء، وصدق الله إذ يقول:
{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } ومن الأحاديث التى وردت فى الأمر باتخاذ الصديق الصالح، وبالنهى عن الصديق الطالح، ما رواه الشيخان عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك. وإمّا أن تبتاع منه. وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثوبك. وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة" .
ثم بين - سبحانه - ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء المشركين، وما قالوه فى شأن القرآن الكريم، وما رد به - سبحانه - عليهم، فقال - تعالى -: { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ... }.