التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً
٤٥
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً
٤٦
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً
٤٧
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً
٤٨
لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً
٤٩
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٥٠
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً
٥١
فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
٥٢
وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
٥٣
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
٥٤
-الفرقان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: قوله - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ.. } يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ويجوز أن تكون من العلم.
قال الحسن وقتادة وغيرهما: مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤبة أنه قال: "كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فىء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل".
والجملة الكريمة شروع فى بعض دلائل قدرته - سبحانه - وواسع رحمته، إثر بيان جهالات المشركين، وغفلتهم عما فى هذا الكون من آثار تدل على وحدانية الله - تعالى -.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والاستفهام للتقرير.
والمعنى لقد رأيت - أيها الرسول الكريم - بعينيك، وتأملت بعقلك وبصيرتك، فى صنع ربك الذى أحسن كل شىء خلقه، وكيف أنه - سبحانه - مد الظل، أى: بسطه وجعله واسعا متحركا مع حركة الأرض فى مواجهة الشمس، وجعله مكانا يستظل فيه الناس من وهج الشمس وحرها، فيجدون عنده الراحة بعد التعب... وهذا من عظيم رحمة ربك بعباده.
وقوله - تعالى -: { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } جملة معترضة لبيان مظهر من مظاهر قدرته - تعالى -. أى: "ولو شاء" - سبحانه - لجعل هذا الظل "ساكنا" أى: ثابتا دائما مستقرا على حالة واحدة بحيث لا تزيله الشمس، ولا يذهب عن وجه الأرض، ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك، لأن مصلحة خلقه ومنفعتهم فى وجوده على الطريقة التى أوجده عليها بمقتضى حكمته.
وقوله - سبحانه -: { ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } معطوف على قوله { مَدَّ ٱلظِّلَّ } داخل فى حكمه. أى: ألم ترى إلى عجيب صنع ربك كيف مد الظل، ثم جعلنا بقدرتنا وحكمتنا الشمس دليلا عليه، إذ هو يزول بتسلطها عليه ويظهر عند احتجابها عنه، ويستدل بأحوالها على أحواله، فهو يتبعها كما يتبع الإنسان من يدله على الشىء، من حيث إنه يزيد كلما احتجبت عنه، ويتقلص كلما ظهرت عليه.
قال الجمل: قوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } أى: جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شىء، لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة... ولم يؤنث الدليل - وهو صفة الشمس - لأنه فى معنى الاسم، كما يقال: الشمس برهان، والشمس حق.
وقوله - تعالى -: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } معطوف - أيضا - على "مد" وداخل فى حكمه.
والقبض: ضد المد والبسط، واليسير: السهل الذى لا عسر فيه.
أى: ثم قبضنا ذلك الظل الممدود بقدرتنا وحكمتنا - قبضا يسيرا وهينا علينا. بأن محوناه بالتدريج عند إيقاعنا الشمس عليه. حتى انتهى أمره إلى الزوال والاضمحلال.
وقال - سبحانه -: { إِلَيْنَا } للتنصيص على أن مد الظل وقبضه مرجعه إليه - تعالى - وحده. فليس فى إمكان أحد سواه - عز وجل - أن يفعل ذلك.
قال صاحب الكشاف: قوله: { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } أى: على مهل. وفى هذا القبض اليسير شيئا بعد شىء من النمافع مالا يعد ولا يحصر. ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا.
فإن قلت: "ثم" فى هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كان الثانى أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما فى الفضل، بتباعد ما بين الحوادث فى الوقت... ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهى الأجرام التى تبقى الظل، فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه.
ثم انتقلت السورة من الحديث عن الظل ومده وقبضه. إلى الحديث عن الليل والنوم والنهار. فقال - تعالى -: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً }. ولباسا: أى: ساترا بظلامه كما يستر اللباس ما تحته.
والسبات: الانقطاع عن الحركة مع وجود الروح فى البدن، مأخوذ من السبت بمعنى القطع أو الراحة والسكون، ومنه قوله - تعالى -:
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أى راحة لأبدانكم.
والنشور: بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش. أى: وهو - سبحانه - الذى جعل لكم - أيها الناس - الليل "لباسا" أى: ساترا لكم يستركم كما يستر اللباس عوراتكم، وجعل لكم النوم "سباتا" أى: راحة لأبدانكم من عناء العمل. وما يصاحبه من مشقة وتعب، وجعل - سبحانه - النهار "نشورا" أى: وقتا مناسبا لانتشاركم فيه، وللسير فى مناكب الأرض، طلبا للرزق والكسب ووسائل المعيشة.
وهكذا تتقلب الحياة بالإِنسان وهو تارة تحت جنح الليل الساتر، وتارة مستغرق فى نومه، وتارة يكدح لطلب معاشه.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } ثم ذكر - سبحانه - نعمته فى الرياح، حيث تكون بشيرا بالأمطار التى تحيى الأرض بعد موتها، فقال - تعالى -: { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ }.
وبشرا: أى: مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق.
أى: وهو - سبحانه - الذى أرسل - بقدرته - الرياح لتكون بشيرا لعباده بقرب نزول رحمته المتمثلة فى الغيث الذى به حياة الناس والأنعام وغيرهما.
قال الجمل: "الرياح" أى: المبشرات وهى الصبا - وتأتى من جهة مطلع الشمس - والجنوب والشمال، والدبور - وتأتى من ناحية مغرب الشمس - وفى قراءة سبعية: وهو الذى أرسل الريح... على إرادة الجنس، و "بشرا" قرىء بسكون الشين وضمها وقرىء - أيضا - نشرا، أى: متفرقة قدام المطر.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعال -:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ } ثم ذكر - سبحانه - ما ترتب على إرسال الرياح من خير فقال: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً.. }.
أى: وأنزلنا من السماء ماء طاهرا فى ذاته، مطهرا لغيره، سائغا فى شربه، نافعا للإِنسان والحيوان والنبات والطيور وغير ذلك من المخلوقات.
ووصف - سبحانه - الماء بالطهور زيادة فى الإِشعار بالنعمة وزيادة فى إتمام المنة، فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما ليس كذلك.
وقوله - تعالى -: { لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً }.
أى: أنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيى بهذا الماء بلدة، أى: أرضا جدباء لا نبات فيها لعدم نزول المطر عليها، ولكى نسقى بهذا الماء أيضا "أنعاما" أى: إبلا وبقرا وغنما "وأناسى كثيرا" أى: وعددا كثيرا من الناس. فالأناسى: جمع إنسان واصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها.
وقدم - سبحانه - إحياء الأرض، لأن خروج النبات منها بسبب المطر تتوقف عليه حياة الناس والأنعام وغيرهما.
وخص الأنعام بالذكر، لأن مدار معاشهم عليها، ولذا قدم سقيها على سقيهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟.
قلت: لأن الطير والوحش تبعد فى طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام..
فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسى وصفها بالكثرة.
قلت: معنى ذلك أن عِلْيَة الناس وجلهم مُنيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، فيهم غنية عن سقى السماء، وأعقابهم - وهم كثير منهم - لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه.
فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟
قلت: لأن حياة الأناسى بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم.
والضمير المنصوب فى قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ.. } يعود إلى الماء الطهور الذى سبق الحديث عنه.
والتصريف: التكرير والتنويع والانتقال من حال إلى حال.
أى: ولقد صرفنا هذا المطر النازل من السماء فأنزلناه بين الناس فى البلدان المختلفة، وفى الأوقات المتفاوتة، وعلى الصفات المتغايرة، فنزيده فى بعض البلاد وننقصه أخرى، ونمنعه عن بعض الأماكن... كل ذلك على حسب حكمتنا ومشيئتنا.
وقد فعلنا ما فعلنا لكى يعتبر الناس ويتعظوا ويخلصوا العبادة لنا.
قال الآلوسى: قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } الضمير للماء المنزل من السماء، وتصريفه: تحويل أحواله، وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة.
وقال بعضهم: هو راجع إلى القول المفهوم من السياق، وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال المطر، وتصريفه: تكريره، وذكره على وجوه ولغات مختلفة.
والمعنى: ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة فى القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس ليتفكروا.
وأخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن عطاء الخراسانى أنه عائد على القرآن. ألا ترى قوله - تعالى - بعد ذلك: { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } وحكاه فى البحر عن ابن عباس. والمشهور عنه ما تقدم، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته - تعالى -.
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الأول، لأن سياق الحديث عن المطر النازل من السماء بقدرة الله - تعالى - ولأن هذا القول هو المأثور عن جمع من الصحابة والتابعين، كابن عباس، وابن مسعود وعكرمة، ومجاهد وقتادة... وغيرهم.
وقوله - تعالى -: { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } بيان لموقف أكثر الناس من نعم الله - تعالى -. أى: أنزلنا المطر، وصرفناه بين الناس ليعتبروا ويتعظوا، فأبى أكثرهم إلا الجحود لنعمنا، ومقابلتها بالكفران، وإسنادها إلى غيرنا ممن لا يخلقون شيئا وإنما هم عباد لنا، وخلقنا.
وفى صحيح مسلم
"أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه بعد نزول المطر من السماء: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال صلى الله عليه وسلم: قال ربكم، أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب" .
- والنوء - بتشديد النون وفتحها وسكون الواو: سقوط نجم فى المغرب مع الفجر، وطلوع آخر يقابله من ساعته بالمشرق.
وقال - سبحانه -: { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ... } لمدح القلة المؤمنة منهم، وهم الذين قابلوا نعم الله - تعالى - بالشكر والطاعة.
ثم ذكر - سبحانه - ما يدل على رفعة منزلة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً }. أى: ولو شئنا لبعثنا فى زمنك - أيها الرسول الكريم - فى كل قرية من القرى نذيرا ينذر أهلها بسوء عاقبة الكفر والجحود، ويكون عونا لك على تحمل أعباء الرسالة التى أرسلناك بها... ولكنَّا لم نشأ ذلك تكريما لك وتعظيما لقدرك، حيث خصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس. وما دام الأمر كذلك "فلا تطع الكافرين" فيما يريدونه منك من أمور باطلة فاسدة "وجاهدهم به" أى: بهذا القرآن، عن طريق قراءته والعمل بما فيه، وبيان ما اشتمل عليه من دلائل وبراهين على صحة دعوتك.
وقوله - تعالى -: { جِهَاداً كَبيراً } مؤكد لما قبله. أى: جاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا مصحوبا بالإِغلاظ عليهم تارة، وبإبطال شبهاتهم وأراجيفهم تارة أخرى.
قال - تعالى -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } وقوله - سبحانه -: { وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - عز وجل -.
و "مرج" من المرج بمعنى الإِرسال والتخلية، ومنه قولهم. مرج فلان دابته إذا أرسلها إلى المرج وهو المكان الذى ترعى فيه الدواب، ويصح أن يكون المرج بمعنى الخلط، ومنه قوله - تعالى -:
{ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أى: مختلط. ومنه قيل للمرعى: مرج، لاختلاط الدواب فيه بعضها ببعض.
والعذب الفرات: هو الماء السائغ للشرب، الذى يشعر الإنسان عند شربه باللذة، وهو ماء الأنهار وسمى فراتا لأنه يَفْرُت العطش، أى يقطعه ويكسره ويزيله.
والملح الأجاج: هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار. سمى أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار، لأن شربه يزيد العطش.
والبرزخ. الحاجز الذى يحجز بين الشيئين.
أى: وهو - سبحانه - الذى أرسل البحرين. العذب والمالح فى مجاريهما متجاورين، كما ترسل الدواب فى المراعى، أو جعلهما - بقدرته - فى مجرى واحد ومع ذلك لا يختلط أحدهما بالآخر: بل جعل - سبحانه - بينهما "برزخا" أى: حاجزا عظيما، وحجرا محجورا.
أى: وجعل كل واحد منهما حراما محرما على الآخر أن يفسده.
والمراد: لزوم كل واحد منهما صفته التى أوجده الله عليها، فلا ينقلب العذب فى مكانه ملحا، ولا الملح فى مكانه عذبا.
قال - تعالى -:
{ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } وقال - سبحانه -: { أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وهذا الحاجز الذى جعله - سبحانه - بين البحرين: العذب والملح، من أكبر الأدلة وأعظمها على قدرة الله - تعالى -، وعلى أن لهذا الكون إلها صانعا حكيما مدبرا وأن كل شىء فى هذا الكون يسير بنظام معلوم، وبنسق مرسوم.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله - تعالى - فى الظل وفى الرياح وفى الماء..
جاء الحديث عن خلق الإنسان. فقال - تعالى -: { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً... }.
والمراد بالماء: ماء النطفة، وبالبشر الإنسان. أو المراد بالماء، الماء المطلق الذى أشار إليه سبحانه فى قوله:
{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أى: وهو - سبحانه - الذى خلق من ماء النطفة إنسانا "فجعله نسبا وصهرا" أى: فجعل من جنس هذا الإِنسان ذوى نسب: وهم الذكور الذين ينتسب إليهم بأن يقال فلان بن فلان، كما جعل من جنسه - أيضا ذوات صِهْرٍ وهن الإِناث، لأنهن موضع المصاهرة.
والصهر يطلق على أهل بيت المرأة وأقاربها، كالأبوين والإِخوة والأعمام والأخوال، فهؤلاء يعتبرون أصهارا لزوج المرأة.
قال صاحب الكشاف: قسم - سبحانه - البشر قسمين: ذوى نسب، أى: ذكورا ينسب إليهم فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر: أى: إناثا يُصَاهَر بهن ونحوه قوله - تعالى -:
{ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } حيث خلق - سبحانه - من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى.
وإلى هنا نرى هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ستة أدلة محسوسة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته. وهذه الأدلة الستة هى. الظلال قبضا وبسطا، والليل والنهار راحة ونشورا، والرياح بشرا بين يدى رحمته، والأمطار حياة للناس والأنعام وغيرهما، ومرج البحرين أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج، وخلق الإِنسان من نطفة منها الذكر ومنها الأنثى.
ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك موقف المشركين من هذه النعم العظيمة كما بينت وظيفة النبى صلى الله عليه وسلم وأمرته بالمضى فى دعوته متوكلا على الله - تعالى - وحده الذى خلق فسوى. وقدر فهدى ... قال - تعالى -: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ... }.