الوسيط في تفسير القرآن الكريم
قد وردت قصة هود مع قومه فى سور شتى منها: سورة الأعراف، وهود، والأحقاف.. وينتهى نسب هود - عليه السلام - إلى نوح - عليهما السلام -.
وقومه هم قبيلة عاد - نسبة إلى أبيهم الذى كان يسمى بهذا الاسم - وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن - والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل -.
وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله - تعالى - نبيهم هودا لينهاهم عن ذلك، وليأمرهم بعبادة الله وحده. وبشكره - سبحانه - على ما وهبهم من قوة وغنى.
وقد افتتح هود نصحه لقومه، بحضهم على تقوى الله وإخلاص العبادة له وبيان أنه أمين فى تبليغ رسالة الله - تعالى - إليهم، فهو لا يكذب عليهم ولا يخدعهم، وببيان أنه لا يسألهم أجرا على نصحه لهم، وإنما يلتمس الأجر من الله - تعالى - وحده.
وقد سلك فى ذلك المسلك الذى اتبعه جده - عليه السلام - مع قومه، وسار عليه الأنبياء من بعده.
ثم استنكر هود - عليه السلام - ما كان عليه قومه من ترف وطغيان فقال لهم: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }.
والريع بكسر الراء - جمع ريعة. وهو المكان المرتفع من الأرض أو الجبل المرتفع... وقيل: المراد به أبراج الحمام كانوا يبنونها للهو واللعب والأكثرون على أن المراد به: المكان المرتفع ومنه: ريع النبات، وهو ارتفاعه بالزيادة.
أى: أتبنون - على سبيل اللهو واللعب - فى كل مكان مرتفع، بناء يعتبر آية وعلامة على عبثكم وترفكم، وغروركم.
{ وَتَتَّخِذُونَ } أى: وتعملون { مَصَانِعَ } أى: قصورا ضخمة متينة، أو حياضا تجمعون فيها مياه الأمطار... { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أى: عاملين عمل من يرجو الخلود فى هذه الحياة الفانية { وَإِذَا بَطَشْتُمْ } أى: وإذا أردتم السطو والظلم والبغى على غيركم { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ }.
أى: أخذتموه بعنف وقهر وتسلط دون أن تعرف الرحمة إلى قلوبكم سبيلا.
فأنت ترى أن هودا - عليه السلام - قد استنكر على قومه تطاولهم فى البنيان بقصد التباهى والعبث والتفاخر، لا بقصد النفع العام لهم ولغيرهم. كما استنكر عليهم انصرافهم عن العمل الصالح الذى ينفعهم فى آخرتهم وانهماكهم فى التكاثر من شئون دنياهم حتى لكأنهم مخلدون فيها، كما استنكر عليهم - كذلك - قسوة قلوبهم، وتحجر مشاعرهم، وإنزالهم الضربات القاصمة بغيرهم بدون رأفة أو شفقة.
وبعد نهيه إياهم عن تلك الرذائل، أمرهم بتقوى الله وطاعته وشكره على نعمه فقال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
أى: اتركوا هذه الرذائل، واتقوا الله وأطيعون فى كل ما آمركم به. أو أنهاكم عنه، واتقوا الله - تعالى - الذى أمدكم بألوان لا تحصى من النعم، فقد أمدكم بالأنعام - وهى الإِبل والبقر والغنم - التى هى أعز أموالكم، وأمدكم بالأولاد ليكونوا قوة لكم، وأمدكم بالبساتين العامرة بالثمار، وبالعيون التى تنتفعون بمائها العذب.
ثم ختم إرشاده لهم، ببيان أنه حريص على مصلحتهم، وأنه يخشى عليهم إذا لم يستجيبوا لدعوته أن ينزل بهم عذاب عظيم فى يوم تشتد أهواله ولا تنفعهم فيه أموالهم ولا أولادهم.
وبذلك نرى أن هودا - عليه السلام - قد جمع فى نصحه لقومه بين الترهيب والترغيب، وبين الإِنذار والتبشير، وبين التعفف عن دنياهم، والحرص على مصلحتهم.
ولكن هذه النصائح الحكيمة، لم يستقبلها قومه استقبالا حسنا، ولم تجد منهم قبولا، بل كان ردهم عليه - كما حكى القرآن عنهم -: { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ }.
أى: قال قوم هود له بعد أن وعظهم ونصحهم: قالوا له بكل استهتار وسوء أدب: يا هود يستوى عندنا وعظك وعدمه، ولا يعنينا أن تكون ممن يجيدون الوعظ أو من غيرهم ممن لا يحسنون الوعظ والإِرشاد.
قال صاحب الكشاف: فإن قيل: "أوعظت أو لم تعظ" كان أخصر. والمعنى واحد.
قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأن المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذى هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ فى قلة اعتدادهم بوعظه، من قولك: أم لم تعظ.
ثم أضافوا إلى قولهم هذا قولا آخر لا يقل عن سابقه فى الغرور وانطماس البصيرة فقالوا: { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } أى: ما هذا الذى تنهانا عنه من التطاول فى البنيان، ومن اتخاذ المصانع.. إلا خلق آبائنا الأولين، ومنهجهم فى الحياة، ونحن على آثارهم نسير وعلى منهجهم نمشى.
قال القرطبى ما ملخصه: قرأ أكثر القراء { إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } - بضم الخاء واللام - أى: عادتهم ودينهم ومذهبهم وما جرى عليه أمرهم...
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى إلا خلق الأولين - بفتح الخاء وإسكان اللام - أى: ما هذا الذى جئتنا به يا هود إلا اختلاق الأولين وكذبهم، والعرب تقول: حدثنا فلان بأحاديث الخلق، أى: بالخرافات والأحاديث المفتعلة...
وعلى كلتا القراءاتين فالآية الكريمة تصور ما كانوا عليه من تحجر وجهالة تصويرا بليغا.
ثم انتقلوا بعد ذلك إلى غرور أشد واشنع فقالوا: { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }.
أى: هذه: حالنا التى ارتضيناها لحياتنا، وما نحن بمعذبين على هذه الأعمال التى نعملها.
وهكذا رد قوم هود على نبيهم - عليه السلام - بهذا الرد السيىء الذى يدل على استهتارهم وجفائهم وجمودهم على باطلهم.
ولذا جاءت نهايتهم الأليمة بسرعة وحسم، قال - تعالى -: { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ }.
أى: أصر قوم هود على باطلهم وغرورهم فأهلكناهم { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أهكلهم الله - تعالى - دون أن تنفعهم أموالهم، أو قوتهم التى كانوا يدلون بها ويقولون: { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } }.
وختم - سبحانه - قصتهم بما ختم به قصة نوح مع قومه من قبلهم، فقال - تعالى -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك قصة صالح مع قومه، فقال - تعالى -: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ... }.