التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ
٢١٣
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ
٢١٤
وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢١٥
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ
٢١٦
وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ
٢١٧
ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
٢١٨
وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ
٢١٩
إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٢٢٠
-الشعراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الفاء فى قوله - تعالى - { فَلاَ تَدْعُ.. } فصيحة، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل طلب الازدياد من إخلاص العبادة لله - تعالى -.
أى: إذا علمت - أيها الرسول الكريم - ما أخبرناك به، فأخلص العبادة لنا، واحذر أن تعبد مع الله - تعالى - إلها آخر، فتكون من المعذبين.
وخوطب صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وأمثالها، مع أنه أخلص الناس فى عبادته لله - تعالى -، لبيان أن الشرك أقبح الذنوب وأكبرها وأنه لو انحرف إليه - على سبيل الفرض - أشرف الخلق وأكرمهم عند الله - تعالى - لعذبه - سبحانه - على ذلك، فكيف يكون حال غيره ممن هم ليسوا فى شرفه ومنزلته.
لا شك أن عذابهم سيكون أشد، وعقابهم سيكون أكبر.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أقرب الناس إليه، ليكونوا قدوة لغيرهم. وليعلموا أن قرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم لن تنجيهم من عذاب الله، ما استمروا على شركهم، فقال - تعالى -: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ }.
والعشيرة: أهل الرجل الذين يتكثر بهم، و { ٱلأَقْرَبِينَ } هم أصحاب القرابة القريبة كالآباء والأبناء والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات وما يشبه ذلك.
وقد ذكر المفسرون أحاديث متعددة، فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، منها: ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس قال: لما أنزل الله - تعالى - هذه الآية:
"أتى النبى صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، وهى كلمة يقولها المستغيث أو المنذر لقومه - فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجئ إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى لؤى، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم. قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد.
فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا، وأنزل الله: (تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)"
.
قال الآلوسى: ووجه تخصيص عشيرته الأقربين بالذكر مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم: دفع توهم المحاباة، وأن الاهتمام بشأنهم أهم، وأن البداءة تكون بمن يلى ثم من بعده..
أى: أن هذه الآية الكريمة، لا تتعارض مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا، لأن المقصود بها: البدء بإنذار عشيرته الأقربين، ليكونوا أسوة لغيرهم.
وقوله - سبحانه -: { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } إرشاد منه - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية معاملته لأتباعه.
وخفض الجناح: كناية عن التواضع. واللين، والرفق، فى صورة حسية مجسمة، إذ من شأن الطائر حين يهبط أو حين يضم صغاره إليه أن يخفض جناحه، كما أن رفع الجناح يطلق على التكبر والتعالى، ومنه قوه الشاعر:

وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك فى رفعه أجدلا

أى: وكن - أيها الرسول الكريم - متواضعا لين الجانب، لمن اتبعك من المؤمنين، و لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين مع أصحابه، إلا أن الآية الكريمة تعلم المسلمين فى كل زمان ومكان - وخصوصا الرؤساء منهم - كيف يعامل بعضهم بعضا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم هم المؤمنون، والمؤمنون هم المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم فما معنى قوله: { لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }؟
قلت: فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول فى الإِيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، وأن يراد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق الرسول واتبعه فيما جاء به: وصنف ما وجد منه إلى التصديق فحسب. ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح.
ويبدو لنا أنه لا داعى إلى هذه التقسيمات التى ذهب إليها صاحب الكشاف -رحمه الله -، وأن المقصود بقوله: { لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } تأكيد الأمر بخفض الجناح، وللإِشعار بأن جميع أتباعه من المؤمنين، ومثل هذا الأسلوب كثير فى القرآن الكريم، ومنه قوله - تعالى -:
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم... } ومن المعلوم أن الأقوال لا تكون إلا بالأفواه، وقوله - تعالى -: { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ .. } ومن المعروف أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه.
ثم بين - سبحانه - لنبيه كيف يعامل العصاة فقال: { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ }.
قال الآلوسى: الظاهر أن الضمير المرفوع فى { عَصَوْكَ } عائد على من أمر صلى الله عليه وسلم بإنذارهم، وهم العشيرة. أى: فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم، فقل إنى برئ من عملكم، أو من دعائكم مع الله إلها آخر. وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق.
وقيل: هو عائد على من اتبع من المؤمنين. أى: فإن عصوك يا محمد فى الأحكام وفروع الإِسلام، بعد تصديقك والإِيمان بك وتواضعك لهم، فقل إنى برئ مما تعملون من المعاصى...
وكان هذا فى مكة، قبل أن يؤمر صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين.
ثم أمره - سبحانه - بالتوكل عليه وحده فقال: { وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ } أى: اخفض جناحك لأتباعك المؤمنين، وقل لمن عصاك بعد إنذاره إنى برئ من أعمالكم، واجعل توكلك واعتمادك على ربك وحده، فهو - سبحانه - صاحب العزة والغلبة، والقهر، وصاحب الرحمة التى وسعت كل شىء.
وهو - عز وجل - { ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } إلى عبادته وإلى صلاته دون أن يكون معك أحد.
وهو - سبحانه - الذى يرى { وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ } أى: يراك وأنت تصلى مع المصلين، فتؤمهم وتنتقل بهم من ركن إلى ركن، ومن سنة إلى سنة حال صلاتك، والتعبير بقوله { تَقَلُّبَكَ } يشعر بحرصه صلى الله عليه وسلم على تعهد أصحابه، وعلى تنظيم صفوفهم فى الصلاة، وعلى غير ذلك مما هم فى حاجة إليه من إرشاد وتعليم.
وعبر عن المصلين بالساجدين، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، فهذا التعبير من باب التشريف والتكريم لهم
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لكل ما يصح تعلق السمع به { ٱلْعَلِيمُ } بكل الظواهر والبواطن، لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا السماء.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان أن الشياطين من المحال أن تتنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين... وإنما تتنزل على الكاذبين الخائنين، فقال - تعالى -: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ... }.