التفاسير

< >
عرض

وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ
٢٠
لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٢١
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
٢٢
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
٢٣
وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
٢٤
أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
٢٥
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ
٢٦
-النمل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

التفقد: تطلب الشىء ومعرفة أحواله، ومنه قولهم: تفقد القائد جنوده، أى: تطلب أحوالهم ليعرف حاضرهم من غائبهم.
والطير اسم جنس لكل ما يطير، ومفرده طائر، والمراد بالهدهد هنا: طائر معين وليس الجنس.
و { أَمْ } منقطعة بمعنى بل.
أى: وأشرف سليمان - عليه السلام - على أفراد مملكته ليعرف أحوالها، فقال بعد أن نظر فى أحوال الطير: { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ } أى: ما الذى حال بينى وبين رؤية الهدهد ثم تأكد من غيابه فقال بل هو من الغائبين.
قال الآلوسى: "والظاهر أن قوله - عليه السلام - ذلك، مبنى على أنه ظن حضوره ومنه مانع له من رؤيته، أى: عدم رؤيتى إياه مع حضوره، لأى سبب؟ ألساتر أم لغيره. ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: { أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. فأم هى المنقطعة، كما فى قولهم: إنها لإِبل أم شاء...
وقوله - تعالى -: { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } بيان للحكم الذى أصدره سليمان - عليه السلام - على الهدهد بسبب غيابه بدون إذن.
أى: لأعذبن الهدهد عذاباً شديداً يؤلمه، أو لأذبحنه، أو ليأتينى بحجة قوية توضح سبب غيابه. وتقنعنى بالصفح عنه، وبترك تعذيبه، أو ذبحه.
فأنت ترى أن سليمان - عليه السلام - وهو النبى الملك الحكيم العادل - يقيد تعذيب الهدهد أو ذبحه. بعدم إتيانه بالعذر المقبول عن سبب غيابه، أما إذا أتى بهذا العذر فإنه سيعفو عنه، ويترك عقابه.
فكأنه - عليه السلام - يقول: هذا الهدهد الغائب إما أن أعذبه عذاباً شديداً وإما أن أذبحه بعد حضوره، وإما أن يأتينى بعذر مقبول عن سبب غيابه، وفى هذه الحالة فأنا سأعفو عنه.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من الهدهد، فقال: { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أى فمكث الهدهد زماناً غير بعيد من تهديد سليمان له، ثم أتاه فقال له: { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أى: علمت أشياء أنت لم تعلمها. وابتدأ كلامه بهذه الجملة التى فيها ما فيها من المفاجآت لترغيبه فى الإِصغاء إليه، ولاستمالة قلبه لقبول عذره بعد ذلك.
قال صاحب الكشاف: "ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة، والإِحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له فى علمه، وتنبيهاً على أن فى أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له فى ترك الإِعجاب الذى هو فتنة العلماء..".
وقوله: { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } تفسير وتوضيح لقوله قبل ذلك: أحطت بما لم تحط به، وسبأ فى الأصل: اسم لسبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم صار بعد ذلك اسما لحى من الناس سموا باسم أبيهم، أو صار اسما للقبيلة، أو لمدينة تعرف بمأرب باليمن. بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال.
وقد قرأ بعضهم هذا اللفظ بالتنوين باعتباره اسم رجل، وقرأه آخرون بغير تنوين لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
أى: قال الهدهد لسليمان بادئاً حديثه بما يشير إلى قبول عذره: علمت شيئاً أنت لم تعلمه، وجئتك من جهة قبيلة سبأ بنبأ عظيم خطير، أنا متيقن من صدقه.
ثم قص عليه ما رآه فقال: { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } والمراد بهذه المرأة: بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان... ورثت الملك عن أبيها.
أى: إنى وجدت قبيلة سبأ تحكمها امرأة، وتتصرف فى أمورهم دون أن يعترض عليها معترض، أو ينافسها منافس.
وقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } معطوف على ما قبله. أى: وبين يديها جميع الأشياء التى تحتاجها لتصريف شئون مملكتها، والمحافظة على قوتها واستقرارها...
وفضلاً عن كل ذلك { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أى: لها سرير ملك فخم ضخم يدل على غناها وترفها، ورقى مملكتها فى الصناعة وغيرها.
والمراد أن لها عرشاً عظيماً بالنسبة إلى أمثالها من الدنيا.
ثم أضاف إلى ذلك قوله: { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ... }.
أى: والأهم من كل ذلك أنى وجدت هذه المرأة ومعها قومها يتركون عبادة الله - تعالى -، ويعبدون الشمس التى هى من مخلوقاته - عز وجل -.
{ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } التى هى عبادتهم للشمس، وما يشبهها من ألوان الكفر والفسوق عن أمر الله - تعالى -.
{ فَصَدَّهُمْ } أى فمنعهم الشيطان { عَنِ ٱلسَّبِيلِ } الحق { فَهُمْ } بسبب ذلك { لاَ يَهْتَدُونَ } إلى عبادة الله - تعالى - الذى لا معبود بحق سواه.
وقوله: { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } بيان لما ترتب على إغواء الشيطان لهم. وقد قرأ عامة القراء { أَلاَّ } - بتشديد اللام - و { يَسْجُدُواْ } فعل مضارع منصوب بأن المدغمة فى لفظه لا، وهو مع ناصبه فى تأويل مصدر، فى محل نصب على أنه مفعول لأجله.
والمعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم من أجل أن يتركوا السجود لله - تعالى - { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي } أى: الذى يظهر الشىء المخبوء فى السموات والأرض، كائناً ما كان هذا الشىء، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فيهما.
قال الآلوسى: وقوله - تعالى -: { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } أى: لئلا يسجدوا لله واللام للتعليل، وهو متعلق بصدهم أو بزين. والفاء فى { فَصَدَّهُمْ } لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية، أى: فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا لله - عز وجل -. أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له - تعالى -.
ثم قال: وقرأ الكسائى: { أَلاَّ } - بتخفيف اللام - على أنها حرف استفتاح وتنبيه.
وقوله - تعالى -: { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } معطوف على ما قبله.
والمعنى: زين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله الذى يعمل المخبوء والمستور فى السموات والأرض، ويعلم ما تخفون من أسرار، وما تعلنون من أقوال.
قال بعض العلماء: "واعلم أن التحقيق أن آية النمل هذه، محل سجدة على كلتا القراءتين، لأن قراءة الكسائى فيها الأمر بالسجود، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود وتوبيخه".
وقوله - تعالى -: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } فى معنى التعليل لحقيقة السجود لله - تعالى - وحده.
أى: اجعلوا سجودكم لله - تعالى - وحده، واتركوا السجود لغيره، لأنه - سبحانه - لا إله بحق سواه، وهو - سبحانه - صاحب العرش العظيم، الذى لا يدانيه ولا يشبهه شىء مما يطلق عليه هذا اللفظ.
ثم تحكى السور بعد ذلك ما كان من سليمان - عليه السلام - وما كان من ملكه سبأ بعد أن وصلها كتابه، فقال - تعالى -: { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ... }.