التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ
٨٢
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ
٨٣
حَتَّىٰ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨٤
وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ
٨٥
أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٨٦
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
٨٧
وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
٨٨
-النمل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام ابن كثير: هذه الدابة تخرج فى آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض قيل: من مكة، وقيل من غيرها.
ثم ذكر -رحمه الله - جملة من الأحاديث فى هذا المعنى منها: ما رواه مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفارى قال:
"أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفته، ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، والدجال، و ثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن، تسوق - أو تحشر - الناس، تبيت معهم حيث باتوا - وتقيل معهم حيث قالوا" .
والدابة: اسم لكل حيوان ذى روح، سواء أكان ذكرا أم أنثى، عاقلا أم غير عاقل، من الدبيب وهو فى الأصل: المشى الخفيف، واختصت فى العرف بذوات القوائم الأربع.
والمراد بوقوع القول عليهم: قرب قيام الساعة، وانتهاء الوقت الذى يقبل فيه الإِيمان من الكافر. أو الذى تنفع فيه التوبة.
والمعنى إذا دنا وقت قيام الساعة. وانتهى الوقت الذى ينفع فيه الإِيمان أو التوبة.. أخرجنا للناس بقدرتنا وإرادتنا، دابة من الأرض تكلمهم، فيفهمون كلامها، ويعرفون أن موعد قيام الساعة قد اقترب. و { أَنَّ ٱلنَّاسَ } أى: الكافرين { كَانُوا بِآيَاتِنَا } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { لاَ يُوقِنُونَ } بها، ولا يصدقون أن هناك بعثا وحسابا.
فخروج الدابة علامة من علامات الساعة الكبرى، يخرجها الله - عز وجل - ليعلم الناس قرب انتهاء الدنيا وأن الحساب العادل للمؤمنين والكافرين، آت لا شك فيه، وأن التوبة لن تقبل فى هذا الوقت، لأنها جاءت فى غير وقتها المناسب.
وقد ذكر بعض المفسرين أوصافا كثيرة، منها أن طولها ستون ذراعا وأن رأسها رأس ثور، وأذنها أذن فيل، وصدرها صدر أسد.. الخ.
ونحن نؤمن بأن هناك دابة تخرج فى آخر الزمان، وأنها تكلم الناس بكيفية يعلمها الله - عز وجل - أمَّا ما يتعلق بالمكان الذى تخرج منه هذه الدابة، وبالهيئة التى تكون عليها من حيث الطول والقصر، فنكل ذلك إلى علمه - سبحانه - حيث لم يرد حديث صحيح يعتمد عليه فى بيان ذلك.
وقوله - سبحانه -: { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } بيان إجمالى لحال المكذبين بالساعة عند قيامها، بعد بيان بعض أشراطها.
والظرف متعلق بمحذوف. والحشر: الجمع، قالوا والمراد بهذا الحشر: حشر الكافرين إلى النار، بعد حشر الخلائق جميعها، والفصل بينهم.
والفوج: يطلق فى الأصل على الجماعة التى تسير بسرعة، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل جماعة، وإن لم يكن معها مرور أو إسراع.
وقوله: { يُوزَعُونَ } من الوزع. بمعنى الكف والمنع، يقال: وزعه عن الشىء، إذا كفه عنه، ومنعه من غشيانه، والوازع فى الحرب، هو الموكل بتنظيم الصفوف، ومنع الاضطراب فيها.
والمعنى: واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - يوم { نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ } من الأمم { فَوْجاً }.
أى: جماعة من الذين كانوا يكذبون فى الدنيا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أى: فهم يقفون بين أيدينا، داخرين صاغرين، بحيث لا يتقدم أحد منهم على أحد، وإنما يتحركون ويساقون إلى حيث نريد منهم، ويتجمعون جميعا ليلقوا مصيرهم المحتوم.
وأفرد - سبحانه - هؤلاء المكذبين بالذكر. - مع أن الحشر يشمل الناس جميعا - لإِبراز الحال السيئة التى يكونون عليها عندما يجمعون للحساب دون أن يشذ منهم أحد، ودون أن يتحرك أولهم حتى يجتمع معه آخرهم..
ثم بين - سبحانه - أحوالهم بعد ذلك فقال: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوا } أى: حتى إذا ما وصلوا إلى موقف الحساب قال الله - تعالى - لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي } الدالة على وحدانيتى وعلى أن الآخرة حق. وأن الحساب حق وجملة، { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } حالية، لزيادة التشنيع عليهم. والتجهيل لهم.
أى: أكذبتم بآياتى الدالة على أن البعث حق، دون أن تتفكروا فيها، ودون أن يكون عندكم أى علم أو دليل على صحة هذا التكذيب.
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التوبيخ لهم، توبيخا أشد وأعظم، فقال: { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
أى: إذا لم تكونوا قد كذبتم بآياتى، فقولوا لنا ماذا كنتم تعملون، فإننا لا يخفى علينا شىء منها، ولا نعاقبكم إلا عليها.
ولا شك أن هذا التساؤل المقصود منه تأنيبهم وتقريعهم، والاستهزاء بهم، لأنه من المعروف أنهم كذبوا بآيات الله، وأنهم قد قضوا حياتهم فى الكفر والضلال، ولذا وقفوا واجمين لا يحيرون جوابا، فكانت النتيجة كما قال - تعالى - بعد ذلك: { وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ }. أى: وحل العذاب عليهم بسبب ظلمهم وجحودهم، فاستقبلوه باستسلام وذلة، دون أن يستطيعوا النطق بكلمة تنفعهم. أو بحجة يدافعون بها عن أنفسهم...
فالمقصود بوقوع القول عليهم: إقامة الحجة عليهم، ونزول العذاب بهم واستحقاقهم له بسبب ظلمهم وكفرهم.
وبعد هذا التوبيخ لهم وهم فى ساحة الحشر، انتقلت السورة إلى توبيخهم على فعلتهم حين كانوا فى الدنيا. فتقول: { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً }.
أى: أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المكذبين - أنهم يعيشون - فى هذا الكون ليأكلوا ويشربوا ويتمتعوا، دون أن يعتبروا أو يتفكروا.
لقد أوجدنا لهم ليلا يسكنون فيه، وأوجدنا لهم نهارا يبتغون فيه أرزاقهم، وجعلنا الليل والنهار بهذا المقدار، لتتيسر لهم أسباب الحياة والراحة، فكيف لم يهتدوا إلى أن لهذا الكون خالقا حكيما قادرا؟
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى جعلناه، لهم، من وجود الليل والنهار بهذه الطريقة { لآيَاتٍ } بينات واضحات على وحدانيتنا وقدرتنا { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بأن الله - تعالى - هو الخالق لكل شىء وهو الإِله الحق لا إله سواه.
وذلك، لأن من تأمل فى تعاقب الليل والنهار بتلك الصورة البديعة المطردة، وفى اختلافهما طولا وقصرا، وظلمة وضياء... أيقن بأن لهذا الكون إلها واحدا قادرا على إعادة الحياة إلى الأموات، ليحاسبهم على أعمالهم.
قال الآلوسى: وقوله: { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } أى: ليبصروا بما فيه من الإِضاءة، وطرق التقلب فى أمور معاشهم، فبولغ حيث جعل الإِبصار الذى هو حال الناس حالا له، ووصفا من أوصافه التى جعل عليها بحيث لم ينفك عنها، ولم يسلك فى الليل هذا المسلك. لما أن تأثير ظلام الليل فى السكون، ليس بمثابة تأثير ضوء النهار فى الإِبصار.
وقوله - سبحانه -: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ.. } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً } والصور، القرن الذى ينفخ فيه نفخة الصَّعْق والبعث، وذلك يكون عند النفخة الثانية... والنافخ: إسرافيل - عليه السلام -.
قال القرطبى ما ملخصه: والصحيح فى الصور أنه قرن من نور، ينفخ فيه إسرافيل.
والصحيح - أيضا - فى النفخ فى الصور أنهما نفختان. وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لهما.. والمراد - هنا النفخة الثانية - أى: يحيون فزعين، يقولون:
{ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ويعاينون من الأمر ما يهولهم ويفزعهم:
والمعنى واذكر - أيها العاقل - يوم ينفخ إسرافيل فى الصور بإذن الله - تعالى - وأمره { فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } أى: خافوا وانزعجوا، وأصابهم الرعب، لشدة ما يسمعون، وهول ما يشاهدون، فى هذا اليوم الشديد.
وقوله: { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } اسثناء ممن يصيبهم الفزع.
أى: ونفخ فى الصور ففزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله - تعالى - لهم عدم الفزع والخوف.
والمراد بهؤلاء الذين لا يفزعون، قيل: الأنبياء، وقيل: الشهداء، وقيل: الملائكة.
ولعل الأنسب أن يكون المراد ما يعم هؤلاء السعداء وغيرهم، ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، لأنه لم يرد نص صحيح يحددهم.
وقوله - سبحانه -: { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } أى: وكل واحد من هؤلاء الفزعين المبعوثين عند النفخة، أتوا إلى موقف الحشر، للوقوف بين يدى الله - تعالى - { دَاخِرِينَ } أى: صاغرين أذلاء.
يقال: دخر فلان - كمنع وفرح - دخرا ودخورا. إذا صغر وذل.
وقوله - تعالى -: { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ... } معطوف على قوله - سبحانه - قبل ذلك: { يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ }.
أى: فى هذا اليوم الهائل الشديد، يفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله، وترى الجبال الراسيات الشامخات، { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أى ثابتة فى أماكنها، والحال أنها تمر فى الجو مر السحاب، الذى تسيره الرياح سيرا حثيثا.
وهكذا تصور الآيات الكريمة أهوال ذلك اليوم هذا التصوير البديع المعجز المؤثر، فالناس جميعا - إلا من شاء الله - فزعون وجلون، والجبال كذلك كأنها قد أصابها ما أصاب الناس، حتى لكأنها - وهى تسرع الخطا -. السحاب فى خفته ومروقه وتناثره، ثم يعقب - سبحانه - على كل ذلك بقوله { صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ }.
ولفظ { صُنْعَ } يجوز أن يكون منصوبا على الإِغراء أى: انظروا صنع الله - تعالى - الذى أتقن كل شىء فقد أحسن - سبحانه - ما خلقه وأحكمه، وجعله فى أدق صورة، وأكمل هيئة، وصدق الله - تعالى - إذ يقول
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال صاحب فتح القدير: وانتصاب "صنع" على المصدرية، أى: صنع الله ذلك صنعا. وقيل هو مصدر مؤكد لقوله: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } وقيل منصوب على الإِغراء.
وجملة: { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } تعليل لما قبله. أى: صَنَع الله ما خلقه على هذا الإِحكام العجيب، والإِتقان البديع، لأنه - سبحانه - خبير بما تفعلونه ومطلع على ما تخفونه وما تعلنونه.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان جزاء من أحسن، وببيان جزاء من أساء، وببيان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعوته فقال - تعالى -: { مَن جَآءَ... }.