التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
٢٢
وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
٢٣
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
٢٤
فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَئْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ
٢٦
قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
٢٧
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
٢٨
-القصص

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

لفظ { تِلْقَآءَ } فى قوله - تعالى -: { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } منصوب على الظرفية المكانية، وهو فى الأصل اسم مصدر. يقال دارى تلقاء دار فلان، إذا كانت محاذية لها.
و { مَدْيَنَ } اسم لقبيلة شعيب - عليه السلام - أو لقريته التى كان يسكن فيها، سميت بذلك نسبة إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام -.
وإنما توجه إليها موسى - عليه السلام -، لأنها لم تكن داخلة تحت سلطان فرعون وملئه.
أى: وبعد أن خرج موسى من مصر خائفا يترقب، صرف وجهه إلى جهة قرية مدين التى على أطراف الشام جنوبا، والحجاز شمالا.
صرف وجهه إليها مستسلماً لأمر ربه، متوسلا إليه بقوله: { عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }.
أى: قال على سبيل الرجاء فى فضل الله - تعالى - وكرمه: عسى ربى الذى خلقنى بقدرته، وتولانى برعايته وتربيته، أن يهدينى ويرشدنى إلى أحسن الطرق التى تؤدى بى إلى النجاة من القوم الظالمين.
فالمراد بسواء السبيل: الطريق المستقيم السهل المؤدى. إلى النجاة، من إضافة الصفة إلى الموصوف أى: عسى أن يهدينى ربى إلى الطريق الوسط الواضح.
وأجاب الله - تعالى - دعاءه، ووصل موسى بعد رحلة شاقة مضنية إلى أرض مدين، ويقص علينا القرآن ما حدث له بعد وصوله إليها فيقول: { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ }.
قال القرطبى: ووروده الماء: معناه بلغه، لا أنه دخل فيه. ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول فى المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل، فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه..
وقوله - تعالى -: { تَذُودَانِ } من الذود بمعنى الطرد والدفع والحبس. يقال: ذاد فلان إبله عن الحوض، ذودا وذيادا إذا حبسها ومنعها من الوصول إليه.
والمعنى وحين وصل موسى - عليه السلام - إلى الماء الذى تستقى منه قبيلة مدين { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أى جماعة كثيرة { مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } أى: يسقون إبلهم وغنمهم، ودوابهم المختلفة.
{ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أى: ووجد بالقرب منهم. أو فى جهة غير جهتهم.
{ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } أى: امرأتين تطردان وتمنعان أغنامهما أو مواشيهما عن الماء، حتى ينتهى الناس من السقى، ثم بعد ذلك هما تسقيان دوابهما، لأنهما لا قدرة لهما على مزاحمة الرجال.
وهنا قال لهما موسى - صاحب الهمة العالية، والمروءة السامية، والنفس الوثابة نحو نصرة المحتاج - قال لهما بما يشبه التعجب: { مَا خَطْبُكُمَا }؟ أى: ما شأنكما؟ وما الدافع لكما إلى منع غنمكما من الشرب من هذا الماء، مع أن الناس يسقون منه؟
وهنا قالتا له على سبيل الاعتذار وبيان سبب منعهما لمواشيهما عن الشرب: { لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }.
ويصدر: من أصدر - والصدر عن الشىء: الرجوع عنه، وهو ضد الورود. يقال: صدر فلان عن الشىء. إذا رجع عنه.
قال الشوكانى: قرأ الجمهور "يصدر" بضم الياء وكسر الدال - مضارع أصدر المتعدى بالهمزة، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو "يصدر" بفتح الياء وضم الدال - من صدر يصدر اللازم، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف. أى: يرجعون مواشيهم... و { ٱلرِّعَآءُ } جمع الراعى، مأخوذ من الرعى بمعنى الحفظ.
أى: قالتا لموسى - عليه السلام -: إن من عادتنا أن لا نسقى. مواشينا حتى يصرف الرعاء دوابهم عن الماء، ويصبح الماء خاليا لنا، لأننا لا قدرة لنا على المزاحمة، وليس عندنا رجل يقوم بهذه المهمة، وأبونا شيخ كبير فى السن لا يقدر - أيضا - على القيام بمهمة الرعى والمزاحمة على السقى.
وبعد أن سمع موسى منهما هذه الإِجابة، سارع إلى معاونتهما - شأن أصحاب النفوس الكبيرة، والفطرة السليمة، وقد عبر القرآن عن هذه المسارعة بقوله: { فَسَقَىٰ لَهُمَا }.
أى: فسقى لهما مواشيهما سريعا. من أجل أن يريحهما ويكفيهما عناء الانتظار وفى هذا التعبير إشارة إلى قوته، حيث إنه استطاع وهو فرد غريب بين أمة من الناس يسقون - أن يزاحم تلك الكثرة من الناس، وأن يسقى للمرأتين الضعيفتين غنمهما. دون أن يصرفه شىء عن ذلك.
رحم الله صاحب الكشاف. فقد أجاد عند عرضه لهذه المعانى. فقال ما ملخصه: "قوله: { فَسَقَىٰ لَهُمَا } أى: فسقى غنمهما لأجلهما. وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال.. فأقله وحده.
وإنما فعل ذلك رغبة فى المعروف وإغاثة للملهوف والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء، وقد ازدحمت عليه أمة من الناس، متكافئة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم، مع غنمهما مترقبتين لفراغهم. فما أخطأت همته فى دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، بقوة قلبه، وبقوة ساعده.
فإن قلت: لم ترك المفعول غير مذكور فى قوله { يَسْقُونَ } و { تَذُودَانِ } قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول. ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقى، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا.
فإن قلت: كيف طابق جوابهما سؤاله؟ قلت: سألهما عن سبب الذود فقالتا: السبب فى ذلك أننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال، فلا بد لنا من تأخير السقى إلى أن يفرغوا، ومالنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ كبير، فقد أضعفه الكبر، فلا يصلح للقيام به، فهما قد أبدتا إليه عذرهما فى توليهما السقى بأنفسهما.
فإن قلت: كيف ساغ لنبى الله الذى هو شعيب - عليه السلام - أن يرضى لابنتيه بسقى الماشية؟ قلت، الأمر فى نفسه ليس بمحظور، فالدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون فى ذلك. والعادات متباينة فيه.. وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم. ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة...
وقوله - تعالى -: { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } فقال: { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } بيان لما فعله موسى وقاله بعد أن سقى للمرأتين غنمهما.
أى: فسقى موسى للمرأتين غنمهما، ثم أعرض عنهما متجها إلى الظل الذى كان قريبا منه فى ذلك المكان، قيل كان ظل شجرة وقيل ظل جدار.
فقال: على سبيل التضرع إلى ربه: ياربى: إنى فقير ومحتاج إلى أى خير ينزل منك على سواء أكان هذا الخير طعاما أم غيره.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ } أى: لأى شىء تنزله من خزائن كرمك إلى { مِنْ خَيْرٍ } جل أو قل، { فَقِيرٌ } أى: محتاج، وهو خبر إن. وعدى باللام لتضمنه معنى الاحتياج. و { ما } نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها. والرابط محذوف، و{ مِنْ خَيْرٍ } بيان لها والتنوين فيه للشيوع، والكلام تعريض لما يطعمه، بسبب ما ناله من شدة الجوع.
يدل لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما سقى موسى للجاريتين، ثم تولى إلى الظل. فقال: رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير، وإنه يومئذ فقير إلى كف من تمر" .
واستجاب الله - تعالى - لموسى دعاءه. وأرسل إليه الفرج سريعا، يدل لذلك قوله - تعالى - بعد هذا الدعاء من موسى: { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.. }.
وفى الكلام حذف يفهم من السياق وقد أشار إليه ابن كثير بقوله: لما رجعت المرأتان سراعا بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا، فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى - عليه السلام -. فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها، كما قال - تعالى -: { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } اى: مشى الحرائر، كما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: كانت مستترة بكم درعها. أى قميصها.
ثم قال ابن كثير: وقد اختلف المفسرون فى هذا الرجل من هو؟ على أقوال: أحدهما أنه شعيب النبى - عليه السلام - الذى أرسله الله إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثيرين وقد قاله الحسن البصرى وغير واحد ورواه ابن أبى حاتم.
وقد روى الطبرانى عن مسلمة بن سعد العنزى أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مرحبا بقوم شعيب، وأختان موسى.
وقال آخرون: بل كان ابن أخى شعيب. وقيل: رجل مؤمن من آل شعيب.
ثم قال -رحمه الله - ثم من المقوى لكونه ليس بشعيب، أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه فى القرآن ها هنا. وما جاء فى بعض الأحاديث من التصريح بذكره فى قصة موسى لم يصح إسناده.
والمعنى: ولم يطل انتظار موسى للخير الذى التمسه من خالقه - عز وجل - فقد جاءته إحدى المرأتين اللتين سقى لهما، حالة كونها { تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } أى: على تحشم وعفاف شأن النساء الفضليات.
{ قَالَتْ } بعبارة بليغة موجزة: { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } للحضور إليه { لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أى: ليكافئك على سقيك لنا غنمنا.
واستجاب موسى لدعوة أبيها وذهب معها للقائه { فَلَمَّا جَآءَهُ }، أى: فلما وصل موسى إلى بيت الشيخ الكبير، { وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ }، أى: وقص عليه ما جرى له قبل ذلك، من قتله القبطى، ومن هربوه إلى أرض مدين.
فالقصص هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أى: المقصوص.
{ قَالَ } أى: الشيخ الكبير لموسى { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أى: لا تخف يا موسى من فرعون وقومه، فقد أنجاك الله - تعالى - منهم ومن كل ظالم.
وهذا القول من الشيخ الكبير لموسى، صادف مكانه، وطابق مقتضاه، فقد كان موسى - عليه السلام - أحوج ما يكون فى ذلك الوقت إلى نعمة الأمان والاطمئنان، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك، ما أشارت به إحدى الفتاتين على أبيها: فقال - تعالى -: { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } ولعلها التى جاءت إلى موسى على استحياء لتقوله له: { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }.
{ يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ } أى: قالت لأبيها بوضوح واستقامة قصد - شأن المرأة السليمة الفطرة النقية العرض القوية الشخصية - يا أبت استأجر هذا الرجل الغريب ليكفينا تعب الرعى، ومشقة العمل خارج البيت.
ثم عللت طلبها بقولها: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } أى: استأجره ليرعى غنمنا، فإنه جدير بهذه المهمة، لقوته وأمانته، ومن جمع فى سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة، كان أهلا لكل خير، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم.
قال ابن كثير: قال عمر، وابن عباس، وشريح القاضى، وأبو مالك، وقتادة... وغير واحد: لما قالت: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت: إنه رفع الصخرة التى لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال لى: كونى من ورائى، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفى - أى فارمى - بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه.
واستجاب الشيخ الكبير لما اقترحته عليه ابنته، وكأنه أحس بصدق عاطفتها، وطهارة مقصدها وسلامة فطرتها، فوجه كلامه إلى موسى قائلا: { قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ }
أى: قال الشيخ الكبير لموسى مستجيبا لاقتراح ابنته: يا موسى إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتى هاتين.
ولعله أراد بإحداهما، تلك التى قالت له: يا أبت استأجره، لشعوره - وهو الشيخ الكبير، والأب العطوف، الحريص على راحة ابنته - بأن هناك عاطفة شريفة تمت بين قلب ابنته، وبين هذا الرجل القوى الأمين، وهو موسى - عليه السلام -.
وفى هذه الآيات ما فيها من الإِشارة إلى رغبة المرأة الصالحة، فى الرجل الصالح، وإلى أنه من شأن الآباء العقلاء أن يعملوا على تحقيق هذه الرغبة.
قال الشوكانى: فى هذه الآية مشروعية عرض ولى المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة فى الإِسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبى بكر وعثمان، وغير ذلك مما وقع فى أيام الصحابة أيام النبوة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - سبحانه -: { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } بيان لما اشترطه الشيخ الكبير على موسى - عليه السلام -.
أى قال له بصيغة التأكيد: إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتى هاتين، بشرط أن تعمل أجيرا عندى لرعى غنمى { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أى: ثمانى سنين.
قال الجمل: وقوله: { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي } فى محل نصب على الحال، إما من الفاعل أو من المفعول.
أى: مشروطا على أو عليك ذلك.... و { تَأْجُرَنِي } مفعلوه الثانى محذوف أى: تأجرنى نفسك و { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } ظرف له.
وقوله: { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } أى: فإن أتممت عشر سنين كأجير عندى لرعاية غنمى، أى: فهذا الإِتمام من عندك على سبيل التفضل والتكرم فإنى لا أشترط عليك سوى ثمانى حجج.
وقوله { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } بيان لحسن العرض الذى عرضه الشيخ على موسى.
أى: وما أريد أن أشق عليك أو أتبعك فى أمر من الأمور خلال استئجارى لك، بل ستجدنى - إن شاء الله - تعالى - من الصالحين، فى حسن المعاملة، وفى لين الجانب، وفى الوفاء بالعهد.
وقال: { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ... } للدلالة على أنه من المؤمنين. الذين يفوضون أمورهم إلى الله - تعالى - ويرجون توفيقه ومعونته على الخير.
ثم حكى - سبحانه - ما رد به موسى فقال: { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }.
أى: { قَالَ } موسى فى الرد على الشيخ الكبير { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أى: ذلك الذى قلته لى واشترطته على، كائن وحاصل بينى وبينك، وكلانا مطالب بالوفاء به فاسم الإِشارة مبتدأ، وبينى وبينك خبره، والإِشارة مرجعها إلى ما تعاقدا عليه، وأى فى قوله: { أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ } شرطية، وجوابها، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } و { وما } مزيدة للتأكيد.
والمعنى: أى الأجلين، أى الثمانية الأعوام أو العشرة الأعوام { قَضَيْتُ } أى: وفيت به، وأديته معك أجيرا عندك { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى: فلا ظلم على، وأصل العدوان: تجاوز الحد.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: أى قال موسى: ذلك الذى قلته... قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما اشترطت على ولا أنت عما اشترطت على نفسك... ثم قال: أى أجل من الأجلين قضيت - أطولهما أو أقصرهما - { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى: فلا يعتدى على فى طلب الزيادة عليه. فإن قلت: تصور العدوان إنما هو فى أحد الأجلين الذى هو الأقصر، وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟
قلت: معناه، كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمانى. أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأن الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما فى القضاء، وأما التتمة فهى موكولة إلى رأيى. إن شئت أتيت بها، وإلا لم أجبر عليها.
والمقصود بقوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } توثيق العهد وتأكيده، وأنه لا سبيل لواحد منهما على الخروج عنه أصلا.
أى: والله - تعالى - شهيد ووكيل ورقيب على ما اتفقنا عليه، وتعاهدنا على تنفيذه، وكفى بشهادته - سبحانه - شهادة.
وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الآثار التى تدل على أن موسى - عليه السلام - قد قضى أطول الأجلين. ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سألت جبريل: أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أكملهما وأتمهما، وفى رواية: أبرهما وأوفاهما" .
هذا، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة، يرى فيها بجلاء ووضوح، ما جبل عليه موسى - عليه السلام - من صبر على بأساء الحياة وضرائها ومن همة عالية تحمله فى كل موطن على إعانة المحتاج، ومن طبيعة إيجابية تجعله دائما لا يقف أمام مالا يرضيه مكتوف اليدين، ومن عاطفة رقيقة تجعله فى كل الأوقات دائم التذكر لخالقه، كثير التضرع إليه بالدعاء.
كما يرى فيها الفطرة السوية، والصدق مع النفس، والحياء، والعفاف، والوضوح، والبعد عن التكلف والالتواء، كل ذلك متمثل فى قصة هاتين المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهم، واللتين جاءته إحداهما تمشى على استحياء، ثم قالت لأبيها: يا أبت استأجره.
كما يرى فيها ما كان يتحلى به ذلك الشيخ الكبير من عقل راجح، ومن قول طيب حكيم، يدخل الأمان والاطمئنان على قلب الخائف، ومن أبوة حانية رشيدة، تستجيب للعواطف الشريفة، وتعمل على تحقيق رغباتها عن طريق الزواج الذى شرعه الله - تعالى -.
ومضت السنوات العشر، التى قضاها موسى أجيرا عند الشيخ الكبير فى مدين، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه، وتزوج موسى بإحدى ابنتى الشيخ الكبير، وقرر الرجوع بأهله إلى مصر، فماذا حدث له فى طريق عودته؟ يحكى لنا القرآن الكريم بأسلوبه البديع ما حدث لموسى - عليه السلام - بعد ذلك فيقول: { فَلَمَّا قَضَىٰ.... }.