التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٦٢
قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
٦٣
وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ
٦٤
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ
٦٥
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
٦٦
فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ
٦٧
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٨
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٧٠
-القصص

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الظرف فى قوله - سبحانه -: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } منصوب بفعل مقدر، ونداؤهم نداء إهانة وتحقير. والنداء صادر عن الله - تعالى -.
أى: واذكر - أيها المخاطب - لتتعظ وتعتبر، حال أولئك الظالمين، يوم يناديهم الله - تعالى - فيقول لهم: { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أى: أين شركائى الذين كنتم فى الدنيا تزعمونهم شركائى، لكى ينصروكم أو يدفعوا عنكم العذاب.
فمفعولا { تَزْعُمُونَ } محذوفان، لدلالة الكلام عليهما. والمقصود بهذا الاستفهام { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } الخزى والفضيحة، إذ من المعلوم أنه لا شركاء لله - تعالى - لا فى ذاته ولا فى صفاته.
والمراد بالذين حق عليهم القول فى قوله - تعالى -: { قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ... } رؤساؤهم فى الكفر، ودعاتهم إليه كالشياطين، ومن يشبهونهم فى التحريض على الضلال.
أى قال: رؤساؤهم ودعاتهم إلى الكفر، الذين ثبت عليهم العذاب بسبب إصرارهم على الفسوق والجحود.
{ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ } أى: يا ربنا هؤلاء هم أتباعنا الذين أضللناهم.
{ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أى: دعوناهم إلى الضلالة التى كنا عليها فأطاعونا فيما دعوناهم إليه.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله: { هَـٰؤُلاۤءِ } مبتدأ، و { ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ } صفته، والراجع إلى الموصول محذوف و { أَغْوَيْنَاهُمْ } الخبر. والكاف صفة لمصدر محذوف تقديره: أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا، لا أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء. أودعونا إلى الغى وسولوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم، لأن إغواءنا لهم، لم يكن إلا وسوسة وتسويلا. لا قسرا أو إلجاء "فلا فرق إذا بين غينا وغيهم..".
وقوله - سبحانه - { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } من كلام الرؤساء والشياطين، فهو مقرر لما قبله، ومؤكد له.
أى: تبرأنا إليك منهم، ومن ادعائهم أننا أجبرناهم على الضلالة والغواية، والحق أنهم ما كانوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون ما سولته لهم أهواؤهم وشهواتهم الباطلة.
فالآية الكريمة تحكى تبرؤ رءوس الكفر من أتباعهم يوم القيامة، ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى -:
{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ.. } وقوله - سبحانه -: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } ثم وجه - سبحانه - إليهم توبيخا آخر فقال: { وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ }.
أى: وقيل لهؤلاء الكافرين على سبيل الفضيحة والتقريع: اطلبوا من شركائكم الذين توهمتم فيهم النفع والضر أن يشفعوا لكم، أو أن ينقذوكم مما أنتم فيه من عذاب، فطلبوا منهم ذلك لشدة حيرتهم وذلتهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ولم يلتفتوا إليهم.
{ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } أى: ورأى الشركاء والمشركون العذاب ماثلا أمام أعينهم.
و { لَوْ } فى قوله: { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } شرطية، وجوابها محذوف. والتقدير: لو أنهم كانوا فى الدنيا مهتدين إلى طريق الحق. لما أصابهم هذا العذاب المهين.
ويجوز أن تكون للتمنى فلا تحتاج إلى جواب، ويكون المعنى. ورأوا العذاب. فتمنوا أن لو كانوا ممن هداهم الله - تعالى - إلى الصراط المستقيم فى الدنيا.
ثم وجه - سبحانه - إليهم نداء آخر لا يقل عن سابقه فى فضيحتهم وتقريعهم فقال - تعالى -: ويوم يناديهم فيقول: { مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ }.
أى: واذكر - أيها العاقل - حال هؤلاء الكافرين يوم يناديهم المنادى من قبل الله - عز وجل - فيقول لهم: ما الذى أجبتم به رسلكم عندما أمروكم بإخلاص العبادة لله - تعالى - ونهوكم عن الإِشراك والكفر؟
فالمقصود من السؤال الأول: توبيخهم على إشراكهم، والمقصود من السؤال الثانى، توبيخهم على تكذيبهم لرسلهم، ولذا وقفوا من هذه الأسئلة موقف الحائر المذهول المكروب، كما قال - تعالى -: { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ }.
أى: فخفيت عليهم الحجج التى يجيبون بها على هذه الأسئلة، وصاروا لفرط دهشتهم وذهولهم عاجزين عن أن يسأل بعضهم بعضا عن الإِجابة.
وعدى { فَعَمِيَتْ } بعلى، لتضمنه معنى الخفاء قال - سبحانه - { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ } ولم يقل: فعموا عن الأنباء، للمبالغة فى بيان ذهولهم وصمتهم المطبق فى ذلك اليوم العسير، حتى لكأنما الأنباء والأخبار عمياء لا تصل إليهم، ولا تعرف شيئا عنهم.
والتعبير بقوله - سبحانه - { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } يشعر بزيادة حيرتهم وفرط دهشتهم فهم جميعا قد صاروا فى حالة من الإِبلاس والحيرة، جعلتهم يتساوون فى العجز والجهل.
وكعادة القرآن الكريم فى الجمع بين حال الكافرين وحال المؤمنين، أتبع الحديث عن الكافرين، بالحديث عن المؤمنين فقال: { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ } هذا التائب المؤمن المواظب على الأعمال الصالحة { أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } أى من الفائزين بالمطلوب.
قال ابن كثير: و { عَسَىٰ } من الله - عز وجل - موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنّه - أى وعطائه - لا محالة.
ثم بين - سبحانه - أن مرد الأمور جميعها إليه، وأنه هو صاحب الخلق والأمر فقال: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ }.
أى: وربك - أيها الرسول الكريم - يخلق ما يشاء أن يخلقه، ويختار من يختار من عباده لحمل رسالته، ولتبليغ دعوته.
{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } و { مَا } فى قوله - تعالى { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } نافية والخيرة من التخير وهى بمعنى الاختيار، والجملة مؤكدة لما قبلها من أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء ويختار.
أى: وربك وحده يخلق ما يشاء خلقه ويختار ما يشاء اختياره لشئون عباده، وما صح وما استقام لهؤلاء المشركين أن يختاروا شيئا لم يختره الله - تعالى - أو لم يرده، إذ كل شىء فى هذا الوجود خاضع لإِرادته وحده - عز وجل - ولا يملك أحد كائنا من كان أن يقترح عليه شيئا ولا أن يزيد أو ينقص فى خلقه شيئا.
وليس هؤلاء المشركين أن يختاروا للنبوة أو لغيرها أحدا لم يختره الله - تعالى - لذلك، فالله -عز وجل - أعلم حيث يجعل رسالته.
قال القرطبى ما ملخصه: قوله { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } أى: ليس يرسل من اختاروه هم.
وقيل: يجوز أن تكون { مَا } فى موضع نصب بيختار، ويكون المعنى، ويختار الذى كان لهم فيه الخيرة.
والصحيح الأول لإِطباقهم الوقف على قوله { وَيَخْتَارُ }، و { مَا } نفى عام لجميع الأشياء، أن يكون للعبد فيها شىء سوى اكتسابه بقدرة الله - عز وجل -.
وقال الثعلبى: و { مَا } نفى، أى ليس لهم الاختيار على الله. وهذا أصوب، كقوله - تعالى -:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. } وقوله - تعالى -: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له - عز وجل - عن الشرك والشركاء.
أى تنزه الله - تعالى - وتقدس بذاته وصفاته عن إشراك المشركين، وضلال الضالين.
ثم بين - سبحانه - أن علمه شامل لكل شىء فقال: { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
أى: وربك - أيها الرسول الكريم - يعلم علما تاما ما تخفيه صدور هؤلاء المشركين من أسرار، وما تعلنه من أقوال، وسيحاسبهم على كل ذلك حسابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
{ وَهُوَ ٱللَّهُ } - سبحانه - لا إله إلا هو يستحق العبادة والخضوع { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ }.
أى: فى الدنيا، وله الحمد - أيضا - فى الآخرة، وله وحده { ٱلْحُكْمُ } النافذ { وَإِلَيْهِ } وحده { تُرْجَعُونَ } للحساب لا إلى غيره.
ثم أمر - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس بمظاهر قدرته - سبحانه - فى هذا الكون، وأن يوقظ مشاعرهم للتأمل فى ظاهرتين كونيتين، هما الليل والنهار، فإن التدبر فيما اشتملتا عليه من تنظيم دقيق، من شأنه أن يبعث على الإِيمان بقدرة موجدهما، وهو الله عز وجل. قال - تعالى -: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن... }.