التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٧
فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ
٨
وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٩
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠
وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١١
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
١٢
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣
-القصص

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما قال: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ } ابتدأ بذكر أوائل نعمه فى هذا الباب فقال: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ }.
والوحى إلى أم موسى، يجوز أن يكون عن طريق الإِلهام، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ.. } أو عن طريق المنام، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك.
قال الآلوسى: والظاهر أن الإِيحاء إليها كان بإرسال ملك، ولا ينافى ذلك الإِجماع على عدم نبوتها، لما أن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم.
والظاهر - أيضا - أن هذا الإِيحاء كان بعد الولادة.. وقيل: كان قبلها...
و { أَنْ } فى قوله { أَنْ أَرْضِعِيهِ } مفسرة، لأن الوحى فيه معنى القول دون حروفه.
والخوف: حالة نفسية تعترى الإِنسان، فتجعله مضطرب المشاعر، لتوقعه حصول أمر يكرهه.
والحزن: اكتئاب نفسى يحدث للإِنسان من أجل وقوع ما يكرهه، كموت عزيز لديه. أو فقده لشىء يحبه.
وفى الكلام حذف يعرف من السياق، والتقدير: وحملت أم موسى به فى الوقت الذى كان فرعون يذبح الأبناء، ويستحيى النساء، وأخفت حملها عن غيرها، فلما وضعته أصابها ما أصابها من خوف وفزع على مصير ابنها، وهنا ألهمناها بقدرتنا وإرادتنا. وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه فى خفاء وكتمان { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون وحاشيته أن يقتلوه كما قتلوا غيره من أبناء بنى إسرائيل.
{ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } أى: فى البحر والمراد به نهر النيل، وسمى بحرا لاتساعه، وإن كان الغالب إطلاق البحر على المياه غير العذبة.
{ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ } أى: ولا تخافى عليه من حصول مكروه له، ولا تحزنى لمفارقته لك، فهو فى رعايتنا وحمايتنا، ومن رعاه الله - تعالى - وحماه، فلا خوف عليه ولا حزن.
وجملة { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } تعليل للنهى عن الخوف والحزن، وتبشير لها بأن ابنها سيعود إليها، وسيكون من رسل الله - عز وجل -.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما المراد بالخوفين - فى الآية - حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟.
قلت: أما الأول، فالخوف عليه من القتل، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته، فينموا عليه. وأما الثانى: فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع، ومن الوقوع فى يد بعض العيون المبثوتة من قبل فرعون فى تطلب الولدان.
فإن قلت: ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت: الخوف، غم يلحق الإِنسان لشىء متوقع.
والحزن: غم يلحقه لشىء وقع، فنهيت عنهما جميعا وأومنت بالوحى إليها، ووعدت بما يسليها، ويطمئن قلبها، ويملؤها غبطة وسرورا، وهو رده إليها. وجعله من المرسلين.
وهكذا نجد الآية الكريمة قد اشتملت على أبلغ الأساليب وأبدعها، فى بيان قدرة الله - تعالى - ورعايته لمن يريد رعايته.
قالوا: مدح الأصمعى امرأة لإِنشادها شعرا حسنا، فقرأت هذه الآية الكريمة قم قالت له: أبعد هذه الآية فصاحة، لقد اشتملت على أمرين وهما { أَرْضِعِيهِ } { فَأَلْقِيهِ } ونهيين وهما { لاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ } وخبرين { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } وبشارتين فى ضمن الخبرين وهما: الرد والجعل المذكوران.
والفاء فى قوله: { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... } هى الفصيحة.
والالتقاط: وجود الشىء والحصول عليه من غير طلب ولا قصد.
والمراد بآل فرعون: جنوده وأتباعه الذين عثروا على التابوت الذى به موسى، وحملوه إلى فرعون. والحزن - بالتحريك، وبضم فسكون - نقيض السرور، وفعله كفرح.
يقال: حزنه الأمر وأحزنه: أى: جعله حزينا.
واللام فى قوله: { لِيَكُونَ.. } هى لام العاقبة والصيرورة.
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } لما كان التقاطهم إياه يؤدى إلى كونه عدوا لهم وحزنا، فاللام فى { لِيَكُونَ } لام العاقبة والصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوا وحزنا، فذكر الحال بالمآل كما فى قول الشاعر:

وللمنايا تربى كل مرضعةودورنا لخراب الدهر نبنيها

أى: فعاقبة البناء: الخراب، وإن كان فى الحال مفروحا به.
ويرى بعضهم أن اللام هنا يصح أن تكون للتعليل، بمعنى، أن الله - تعالى - سخر بمشيئته وإرادته فرعون وآله. لالتقاط موسى، ليجعله لهم عدوا وحزنا، فكأنه - سبحانه - يقول: قدرنا عليهم التقاطه بحكمتنا وإرادتنا، ليكون لهم عدوا وحزنا.
إلى هذا المعنى أشار الإِمام ابن كثير بقوله: قال محمد بن إسحاق وغيره اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل، لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك - أى: لم يريدوا بالتقاطه العداوة والحزن -، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضى ما قالوا. ولكن إذا نظرنا إلى معنى السياق، فأنه نبقى اللام للتعليل، لأن معناه: أن الله - تعالى - قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوا وحزنا، فيكون أبلغ فى إبطال حذرهم منه.
ومع وجاهة الرأيين، إلا أننا نميل إلى الرأى الثانى، لأنه - كما قال الإِمام ابن كثير - أبلغ فى إبطال حذرهم منه، ولأن قوله - تعالى -: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } يشير إلى أن اللام للتعليل...
والمعنى: ونفذت أم موسى ما أوحيناه إليها، فأرضعت ابنها موسى, وألقته فى اليم حين خافت عليه القتل، فالتقطه آل فرعون من اليم، ليكون لهم عدوا وحزنا، وليعلموا أن ما أردناه لا بد أن يتم مهما احترسوا واحتاطوا وحذروا، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } تعليل لما قبله، و { خَاطِئِينَ } أى: مرتكبين للخطيئة التى هى الذنب العظيم، كقوله - تعالى - فى قوم نوح - عليه السلام -:
{ مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً.... } وكقوله - سبحانه - فى شأن الكافرين { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أى: فعلنا ما فعلنا من جعل موسى عدوا وحزنا لفرعون وآله، لأن فرعون ووزيره هامان، وجنودهما الذين يناصرونهما، كانوا مرتكبين للذنوب العظيمة فى كل ما يأتون ويذرون، ومن مظاهر ذلك قتلهم لذكور بنى إسرائيل، وإبقاؤهم لإِناثهم.
وقوله - سبحانه -: { وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً.. } بيان لما أنطق الله به امرأة فرعون للدفاع عن موسى - عليه السلام -.
قال الجمل: وامرأة فرعون هى: آسيا بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء، ومن بنات الأنبياء، وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم.
ويكفى فى مدحها قوله - تعالى -:
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أى: وقالت امرأة فرعون بعد أن أخرج موسى من التابوت، ورأته بين أيدى فرعون وآله: { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } أى: هذا الطفل هو قرة عين لى ولك، أى: هو محل السرور والفرح لعينى ولعينك يا فرعون.
فالجملة الكريمة كناية عن السرور به، إذ لفظ { قُرَّةُ } مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار، وذلك لأن العين إذا رأت ما تحبه، استقر نظرها عليه، وانشغلت به عن غيره.
ثم أضافت إلى ذلك قولها { لاَ تَقْتُلُوهُ } والخطاب لفرعون وجنده.
ثم عللت النهى عن قتله بقولها: { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا } فى مستقبل حياتنا، فنجنى من ورائه خيرا.
{ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } لنا، فإن هيئته وصورته تدل على النجابة والجمال واليمن وهكذا شاءت إرادة الله - تعالى -، أن تجعل امرأة فرعون، سببا فى إنقاذ موسى من القتل، وفى أن يعيش فى بيت فرعون، ليكون له فى المستقبل عدوا وحزنا.
وقوله - تعالى -: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية، أى: فعلوا ما فعلوا والحال أنهم لا يشعرون أن هلاكهم سيكون على يديه.
والظاهر أن هذه الجملة من كلام الله - تعالى -، وليست حكاية لما قالته امرأة فرعون.
ثم صورت السورة الكريمة تصويرا بديعا مؤثرا، ما كانت عليه أم موسى من لهفة وقلق، بعد أن فارقها ابنها، فقال - تعالى -: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } أى: وبعد أن ألقت أم موسى به فى اليم، والتقطه آل فرعون، وعلمت بذلك أصبح قلبها وفؤادها خاليا من التفكير فى أى شىء فى هذه الحياة، إلا فى شىء واحد وهو مصير ابنها موسى - عليه السلام -.
وفى هذا التعبير ما فيه من الدقة فى تصوير حالتها النفسية، حتى لكأنها صارت فاقدة لكل شىء فى قلبها سوى أمر ابنها وفلذة كبدها.
قال ابن كثير: قوله - تعالى -: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً } من كل شىء من أمور الدنيا إلا من موسى. قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن البصرى، وقتادة... وغيرهم.
و{ إِن } فى قوله - تعالى - { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } هى المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وتبدى بمعنى تظهر، من بدا الشىء يبدو بدوا وبداء إذا ظهر ظهورا واضحا.
والضمير فى { بِهِ } يعود إلى موسى - عليه السلام -.
أى: وصار فؤاد أم موسى فارغا من كل شىء سوى التكفير فى مصيره، وإنها كادت لتصرح للناس بأن الذى التقطه آل فرعون، هو ابنها، وذلك لشدة دهشتها وخوفها عليه من فرعون وجنده.
وجواب الشرط فى قوله - تعالى - { لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا } محذوف دل عليه ما قبله.
أى: لولا أن ربطنا على قلبها بقدرتنا وإرادتنا. بأن ثبتناه وقويناه، لأظهرت للناس أن الذى التقطه آل فرعون هو ابنها.
وأصل الربط: الشد والتقوية للشىء. ومنه قولهم فلان رابط الجأش، أى: قوى القلب.
وقوله - تعالى -: { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } علة لتثبيت قلبها وتقويته، فهو متعلق بقوله { رَّبَطْنَا }.
أى: ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله - تعالى -، وأنه سيرد إليها ابنها، كى تقر عينها ولا تحزن.
ثم بين - سبحانه - ما فعلته أم موسى بعد ذلك فقال: { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ... } أى لم تسكت أم موسى بعد أن علمت بالتقاط آل فرعون له، بل قالت لأخت موسى { قُصِّيهِ } أى تتبعى أثره وخبره وما آل إليه أمره. يقال: قص فلان أثر فلان فهو يقصه، إذا تتبعه، ومنه القصص للأخبار المتتبعة.
والفاء فى قوله - سبحانه -: { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } هى الفصيحة. والجنب: الجانب.
أى: فقصت أخت موسى أثره، فأبصرته عن جانب منها، وكأنها لا تريد أن تطلع أحدا على أنها تبحث عن أخيها. وتتبع أثره والجار والمجرور حال من الفاعل، أى: بصرت به مستخفية كائنة عن جنب.
قال الآلوسى: { عَن جُنُبٍ } أى عن بعد، وقيل عن شوق إليه... وقال الكرمانى { جُنُبٍ } صفة لموصوف محذوف، أى عن مكان جنب بعيد وكأنه من الأضداد، فإنه يكون بمعنى القريب - أيضا - كالجار الجنب. وقيل على جانب... وقيل: النظر عن جنب، أن تنظر الشىء كأنك لا تريده.
والتعبير بقوله - تعالى - { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } يشعر بأن أخت موسى أبصرت أخاها إبصارا فيه مخادعة لآل فرعون، حتى لا تجعلهم يشعرون بأنها تبحث عنه.
ويشهد لذلك قوله - تعالى -: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أى: وهم - أى آل فرعون - لا يشعرون أنها أخته تبحث عنه وتتبع أخباره.
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر حكمته وقدرته وتدبيره لأمر موسى كى يعود إلى أمه، فقال - تعالى -. { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ... }.
والمراد بالتحريم هنا: المنع، والمراضع: جمع مرضع - بضم الميم وكسر الضاد - وهى المرأة التى ترضع.
أى: ومنعنا موسى بقدرتنا وحكمتنا من أن يرضع من المرضعات وكان ذلك من قبل أن تعلم بخبره أمه وأخته.
قال ابن كثير: قوله - تعالى -: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } أى: تحريما قدريا، وذلك لكرامة الله له، صانه عن أن يرتضع غير ثدى أمه، لأنه - سبحانه - جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهى آمنة بعد أن كانت خائفة...
وقوله - سبحانه -: { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } حكاية لما قالته أخت موسى لفرعون وحاشيته، والاستفهام للتحضيص.
أى: وبعد أن بصرت أخت موسى به عن جنب، ورأت رفضه للمراضع، وبحثهم عمن يرضعه، قالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } أى: يقومون بتربيته وإرضاعه من أجل راحتكم وراحته، { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } أى: وهم لا يمنعونه ما ينفعه فى تربيته وغذائه، ولا يقصرون فيما يعود عليه بالخير والعافية.
وقوله - سبحانه -: { فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ } معطوف على كلام محذوف، والتقدير: فسمعوا منها ما قالت، ودلتهم على أمه، فرددناه إليها، كى يطمئن قلبها وتقر عينها برجوع ولدها إليها، ولا تحزن لفراقه.
ولتعلم أن وعد الله - تعالى - حق، أى: أن وعده - سبحانه - لا خلف فيه، بل هو كائن لا محالة.
{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة حق العلم، ولذا يستعجلون الأمور، دون أن يفطنوا إلى حكمته - سبحانه - فى تدبير أمر خلقه.
وبذلك نرى هذه الآيات قد صاغت لنا بأبلغ أسلوب، جانبا من حياة موسى - عليه السلام -، ومن رعاية الله - تعالى - له، وهو ما زال فى سن الرضاعة.
ثم قص علينا - سبحانه - جانبا من حياة موسى - عليه السلام - بعد أن بلغ أشده واستوى، فقال - تعالى -: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ... }.