التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ
١٠
وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ
١١
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٢
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
١٣
-العنكبوت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ.. } بيان لحال قوم ضعف إيمانهم، واضطراب يقينهم، بعد بيان حال المؤمنين الصادقين فى قوله: { { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } }.... قال القرطبى: قوله - تعالى -: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ... } قال مجاهد: نزلت فى ناس من المنافقين بمكة، كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك، وقال عكرمة: كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر، فقُتل بعضهم".
والمعنى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ } بلسانه دون أن يواطئ هذا القول قلبه { آمَنَّا بِٱللَّهِ }.
وقوله { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } بيان لحال هذا البعض من الناس عندما تنزل بهم المصائب والنكبات.
أى: فإذا أوذى هذا البعض - بعد قوله آمنا بالله - من أجل هذا القول ومن أجل تركه الدين الباطل، ودخوله فى الدين الحق { جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ } له أى جعل عذابهم له، وإيذاءهم إياه { كَعَذَابِ ٱللَّهِ } أى بمنزلة عذاب الله فى الشدة والألم، فيترتب على ذلك أن يتزلزل إيمانه، ويضعف يقينه، بل ربما رجع إلى الكفر بعد الإِيمان.
وفى جعل هذا البعض { فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } دليل واضح على ضعف إيمانه، وفساد تفكيره، لأن عذاب الناس له دافع، أما عذاب الله فلا دافع له، ولأن عذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، أما عذاب الله فهو بسبب غضب الله - سبحانه - على من عصاه، ولأن عذاب الناس معروف أمده ونهايته أما عذاب الله فلا يعرف أحد مداه أو نهايته.
ثم بين - سبحانه - حال هذا الفريق إذا ما مَنَّ الله - تعالى - على المؤمنين الصادقين بنصر، فقال: { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ }.
والضمير فى قوله: { لَيَقُولُنَّ } بضم اللام يعود إلى { مَن } فى قوله: { مَن يِقُولُ }. باعتبار معناها، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها باعتبار لفظها، أى: هكذا حال ضعاف الإِيمان، عند الشدائد يساوون عذاب الناس بعذاب الله، ولا يثبتون على إيمانهم أما إذا جاءكم النصر - أيها الرسول الكريم - فإن هؤلاء الضعاف فى إيمانهم، يقولون بكل ثقة وتأكيد: إنا كنا معكم مشايعين ومؤيدين، ونحن إنما أُكرهنا على ما قلنا، وما دام الأمر كذلك فأشركونا معكم فيما ترتب على النصر من مغانم وخيرات.
وقوله - سبحانه -: { أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ } رد عليهم فى دعواهم الإِيمان، وفى قولهم للمؤمنين: { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } والاستفهام لإِنكار ما زعموه، ولتقدير علم الله - تعالى - الشامل للسر والعلانية.
أى: إن الله - تعالى - عالم بما فى صدور العالمين جميعا من خير وشر، وإيمان وكفر. وإن هؤلاء الذين يقولون آمنا، ليس الله - تعالى - فى حاجة إلى قولهم، فهو - سبحانه - يعلم السر وأَخفى { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ } - تعالى - علما تاما { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } به حق الإِيمان { وَلَيَعْلَمَنَّ } حال المنافقين، علما لا يخفى عليه شئ من حركاتهم وسكناتهم. وسيجازيهم بما يستحقون من عقاب. وأكد - سبحانه - علمه بلام القسم وبنون التوكيد، للرد على دعاوى ضعاف الإِيمان بأقوى أسلوب، وأبلغه، حتى يقلعوا عن نفاقهم، ويتبعوا المؤمنين الصادقين فى ثباتهم.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما زعمه أئمة الكفر من دعاوى باطلة، ورد عليها فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ }.
أى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا على سبيل التضليل والإِغراء: اتبعوا سبيلنا أى طريقنا الذى وجدنا عليه آباءنا، وهو عبادة الأصنام، ولنحمل عنكم خطاياكم يوم القيامة، إن كان هناك بعث وحساب.
واللام فى قوله: { وَلْنَحْمِلْ } لام الأمر، كأنهم آمرين أنفسهم بذلك، لِيُغْيروا المؤمنين باتباعهم.
أى: اطمئنوا إلى أننا لن نتخلى عنكم، ولن ننقض عهودنا معكم فى حمل خطاياكم لو اتبعتمونا، أو هو أمر فى تأويل الشرط والجزاء. أى: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم.
وقد رد الله - تعالى - زعمهم هذا بقوله: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أى: وما هؤلاء الكافرين بحاملين لشئ من خطايا غيرهم التى زعموا حملها يوم القيامة، وأنهم لكاذبون فى كل أقوالهم.
و { مَن } الأولى بيانية، والثانية لنفى حمل أى خطايا مهما صغرت. وقد جاء التكذيب لهم بهذا الأسلوب المؤكد، حتى يخرس ألسنتهم، ويمحو كل أثر من أقوالهم من الأذهان.
ثم بين - سبحانه - أن الأمر على عكس ما زعموه فقال: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ }. أى: ليس الأمر - كما زعموا من أنهم يحملون خطايا المؤمنين، بل الحق أن أئمة الكفر هؤلاء سيحملون خطاياهم كاملة غير منقوصة، وسيحملون فوقها خطايا أخرى، هى خطايا تسببهم فى إضلال غيرهم، وصرفه عن الطريق الحق.
وعبر عن الخطايا بالأثقال، للإِشعار بغاية ثقلها، وفداحة حملها، وعظم العذاب الذى يترتب عليها.
{ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } سؤال تأنيب وتوبيخ { عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أى: عما كانوا يختلقونه فى الدنيا من أكاذيب، وأباطيل، أدت بهم إلى سوء المصير.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } }. قال الإِمام ابن كثير: وفى الصحيح: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإِثم، مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا".
وبعد هذا الحديث عن أنواع الناس، وعن أقوال المشركين الفاسدة، وعن سوء عاقبتهم، ساق - سبحانه - جانبا من قصة نوح وإبراهيم - عليهما السلام - فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً...إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.