التفاسير

< >
عرض

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٢٤
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٦
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٢٧
-العنكبوت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - تعالى -: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ... } بيان لما رد به الظالمون على نبيهم إبراهيم - عليه السلام - بعد أن وعظهم ونصحهم وأقام لهم أوضح الأدلة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
ولفظ "جواب" بالنصب، خبر كان، واسمها قوله: { إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ }..
والمراد بقتله: إزهاق روحه بسيف ونحوه، لتظهر المقابلة بين الإِحراق والقتل.
وجاء هنا الترديد بين الأمرين، للاشعار بأن من قومه من أشار بقتله، ومنهم من أشار بإحراقه، ثم اتفقوا جميعا على الإِحراق، كما جاء فى قوله - تعالى -:
{ { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } }. والمعنى: فما كان جواب قوم إبراهيم له، بعد أن نصحهم وظهرت حجته عليهم، إلا أن قالوا فيما بينهم، اقتلواه بالسيف، أو أحرقوه بالنار، لتستريحوا منه، وتريحوا آلهتكم من عدوانه عليها، وتحطيمه لها...
وقولهم هذا الذى حكاه القرآن عنهم، يدل على إسرافهم فى الظلم والطغيان والجهالة...
والفاء فى قوله - تعالى - { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّار } فصيحة. أى: فاتفقوا على إحراقه بالنار، وألقوه فيما بعد اشتعالها، فأنجاه الله - تعالى - منها، بأن جعلها بردا وسلاما عليه...
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.. أى: إن فى ذلك الذى فعلناه بقدرتنا مع إبراهيم - عليه السلام - حيث أخرجناه سليما من النار { لآيَاتٍ } بينات على وحدانتينا وقدرتنا، لقوم يؤمنون، بأن الله - تعالى - هو رب العالمين، وأنه له الخلق والأمر.
وجمع - سبحانه - الآيات لأن فى نجاة إبراهيم، دلالات متعددة على قدرة الله - تعالى لا دلالة واحدة، فنجاته من النار وتحويلها عليه إلى برد وسلام آية، وعجز المشركين جميعا عن أن يلحقوا به ضررا آية ثانية، وإصرارهم على كفرهم مع ما شاهدوه، آية ثالثة على أن القلوب الجاحدة تبقى على جحودها مع وجود المعجزات الدالة على صدق من جاء بها من عند الله - تعالى -.
ولذا خص - سبحانه - هذه الآيات، لأنهم هم وحدهم المنتفعون بها.
ثم حكى - سبحانه - ما قاله إبراهيم - عليه السلام - لقومه بعد أن نجاه الله من شرورهم فقال: { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً }.
ولفظ "مودة" وردت فيه قراءات: فقد قرأه بعض القُراء السبعة بالنصب، على أنه مفعول به لقوله: { ٱتَّخَذْتُمْ } أو على أنه مفعول لأجله، فيكون المعنى:
وقال إبراهيم لقومه: يا قوم إنكم لم تتخذوا هذه الأوثان معبودات لكم عن عقيدة واقتناع بأحقية عبادتها. وإنما اتخذتموها معبودات من أجل المودة فيما بينكم، ومن أجل أن يجامل بعضكم بعضا فى عبادتها، على حساب الحق والهدى.
وهذا شأنكم فى الدنيا، أما فى يوم القيامة، فهذه المودة ستزول لأنها مودة باطلة، وسيكفر بعضكم ببعض، ويلعن بعضكم بعضا، حيث يتبرأ القادة من الأتباع، والأتباع من القادة. { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أى: ومنزلكم الذى تأوون إليه أنتم وأصنامكم يوم القيامة النار { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يخلصونكم من هذه النار، أو يخففون سعيرها عنكم.
وبعض القراء السبعة قرأ لفظ { مَّوَدَّةَ } بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أى: أن ما اتخذتموه من عبادة الأوثان، هو مودة بينكم فى الحياة الدنيا، أما فى الآخرة فسيكفر بعضكم ببعض، ليعن بعضكم بعضا.
والمقصود من الآية الكريمة، بيان أن هؤلاء المشركين لم يتخذوا الأصنام آلهة، وهم يعتقدون صحة ذلك اعتقادا جازما، وإنما اتخذوها فى الدنيا آلهة تارة على سيل التواد فيما بينهم، وتارة على سبيل التقليد والمسايرة لغيرهم.. أما فى الآخرة فستتحول تلك المودات والمسايرات والتقاليد إلى عداوات ومقاطعات وملاعنات...
وقوله - تعالى -: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... } بيان للثمرة الطيبة التى ترتبت على دعوة إبراهيم لقومه، إلى عبادة الله - تعالى - وحده، بعد أن مكث فيهم مدة لا يعلمها إلا الله، وبعد أن أقام لهم ألوانا من الأدلة على أن ما جاءهم به هو الحق، وما هم عليه هو الباطل.
والتعبير بقوله - سبحانه -: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } يعشر بأن لوطا - عليه السلام - وحده، هو الذى لبى دعوة إبراهيم، وصدقه فى كل ما أخبر به.
ولوط - عليه السلام - يرى كثير من العلماء أنه ابن أخى إبراهيم - عليه السلام - فهو لوط بن هاران بن آزر.
والضمير فى قوله - سبحانه -: { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ... } يرى بعضهم أنه يعود إلى لوط، لأنه أقرب مذكور. أى: فآمن لوط لإِبراهيم وصدقه فى كل ما جاء به، وقال إنى مهاجر إلى الجهة التى أمرنى ربى بالهجرة إليها، لأبلغ دعوته، فهو لم يهاجر من أجل منفعة دنيوية، وإنما هاجر من أجل تبليغ أمر به، وإعلاء كلمته.
ويرى آخرون أن الضمير يعود إلى إبراهيم - عليه السلام -، لأن الحديث عنه.
قال الآلوسى ما ملخصه: { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ } أى: وقال إبراهيم: إنى مهاجر، أى: من قومى، إلى ربى.. أى إلى الجهة التى أمرنى بأن أهاجر إليها { إِنَّهُ } - عز وجل - { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب على أمره... { ٱلْحَكِيمُ } الذى لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة.
وقيل: الضمير فى { وَقَالَ } للوط - عليه السلام -، وليس بشئ لما يلزم عليه من التفكيك".
ثم بين - سبحانه - بعض النعم التى أنعم بها على نبيه إبراهيم، بعد أن هاجر من العراق إلى بلاد الشام لتبليغ رسالة ربه إلى الناس فقال: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ... }.
أى: ووهبنا لإِبراهيم - بعد أن هاجر ومعه زوجه "سارة" وابن أخيه "لوط" - وهبنا له ابنه إسحاق، وهبنا لإِسحاق يعقوب، وجعلنا بفضلنا ورحمتنا، فى ذرية إبراهيم النبوة، إذ من نسله جميع الأنبياء من بعده، كما جعلنا فى ذريته - أيضا - الكتب التى أنزلناها على الأنبياء من بعده، كالتوراة، والإِنجيل والزبور، والقرآن.
فالمراد بالكتاب هنا: الكتب السماوية التى انزلها - سبحانه - على موسى وعيسى وداود ومحمد - صلوات الله عليه - وهم جميعا من نسل إبراهيم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما بال إسماعيل لم يذكر، وذكر إسحاق ويعقوب؟
قلت: قد دل عليه فى قوله: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } وكفى الدليل لشهرة أمره، وعلو قدره.
فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: قصد به جنس الكتاب، حتى دخل تحته ما نزل على ذريته من الكتب الأربعة، التى هى: التوراة، والزبور، والإِنجيل، والقرآن".
وقوله - سبحانه -: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } بيان لنعمة أخرى أنعم بها - سبحانه - على نبيه إبراهيم - عليه السلام -.
أى: وهبنا له الذرية الصالحة، وجعلنا فى ذريته النبوة والكتب السماوية، وآتيناه أجره على أعماله الصالحة فى الدنيا، بأن رزقناه الزوجة الصالحة، والذكر الحسن بعد وفاته.
{ وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } الذين نعطيهم فيها أجزل العطاء وأوفاه.
وهكذا جمع الله - تعالى - بفضله وإحسانه، لنبيه إبراهيم، خيرى الدنيا والآخرة، جزاء إيمانه العميق، وعمله الصالح، ووفائه فى تبليغ رسالة ربه.
وبمناسبة الحديث عن قصة إبراهيم مع قومه، جاء بعد ذلك الحديث عن جانب من قصة لوط مع قومه. لوط - عليه السلام - الذى آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى بلاد الشام..
قال - تعالى -: { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ....لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.