التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
٤٦
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ
٤٧
وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ
٤٨
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ
٤٩
-العنكبوت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمجادلة: المخاصمة. يقال: جادل فلانٌ فلاناً: إذا خاصمه، وحرص كل واحد منها على أن يغلب صاحبه بقوة حجته. أى: ولا تجادلوا - أيها المؤمنون - غيركم من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، إلا بالطريقة التى هى أحسن، بأن ترشدوهم إلى طريق الحق بأسلوب لين كريم، كما قال - تعالى - فى آية أخرى: { { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. } }. وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } استثناء من الذين يجادلون بالتى هى أحسن.
أى: ناقشوهم وأرشدوهم إلى الحق بالتى هى أحسن، إلا الذين ظلموا منهم. بأن أساءوا إليكم، ولم يستعملوا الأدب فى جدالهم، فقابلوهم بما يليق بحالهم من الإِغلاظ والتأديب.
وعلى هذا التفسير يكون المقصود بالآية الكريمة، دعوة المؤمنين إلى استعمال الطريقة الحسنى فى مجادلتهم لأهل الكتاب عموماً. ما عدا الظالمين منهم فعلى المؤمنين أن يعاملوهم بالأسلوب المناسب لردعهم وزجرهم وتأديبهم.
وقيل: المراد بأهل الكتاب هنا: المؤمنون منهم، والمراد بالذين ظلموا: من بقى على الكفر منهم.
فيكون المعنى: ولا تجادلوا - أيها المؤمنون - من آمن من أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن، إلا الذين بقوا على كفرهم فعاملوهم بما يليق بحالهم من التأديب والإِغلاظ عليهم.
ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأرجح والأظهر، لأن الآية مسوقة لتعليم المؤمنين كيف يجادلون من بقى على دينه من أهل الكتاب، ولأن من ترك كفره منهم ودخل فى الإِسلام أصبح مسلما وليس من أهل الكتاب، وما دام الأمر كذلك فليس المسلمون فى حاجة إلى إرشادهم إلى كيفية مجادلته، ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك: { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ... } يرجح أن المراد بأهل الكتاب هنا من بقى على دينه منهم.
أى: جادلوهم بالطريقة الحسنى ما داموا لم يظلموكم، وقولوا لهم على سبيل التعليم والإِرشاد { آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا } وهو القرآن، وآمنا بالذى أنزل إليكم من التوراة والإِنجيل.
قال الشوكانى: أى: آمنا بأنهما منزلان من عند الله، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإِسلامية، والبعثة المحمدية ولا يدخل فى ذلك ما حرفوه وبدلوه،.
{ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِد } لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته { وَنَحْنُ } جميعاً معاشر المؤمنين { لَهُ مُسْلِمُونَ } أى: مطيعون وعابدون له وحده، ولا نتخذ أربابا من دونه - عز وجل -.
قال القرطبى ما ملخصه: اختلف العلماء فى قوله - تعالى -: { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ.. } فقال مجاهد: هى محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن، على معنى الدعاء لهم إلى الله - عز وجل -، والتنبيه على حججه وآياته... وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أى ظلموكم..
وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال وهى قوله:
{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ.. } }. وقول مجاهد: حسن، لأن أحكام الله - عز وجل - لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخير يقطع العذر، أو حجة من معقول..."
ثم بين - سبحانه - موقف الناس من هذا الكتاب الذى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم - فقال: { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.. }.
والكاف بمعنى مثل: واسم الإِشارة يعود إلى المصدر المفهوم من أنزلنا. أى: ومثل ذلك الإِنزال المعجز البديع، أنزلنا إليك الكتاب - أيها الرسول الكريم - ليكون هداية للناس، فالذين آتيناهم الكتاب الشامل للتوراة والإِنجيل وعقلوه وفتحوا قلوبهم للحق، يؤمنون بهذا الكتاب الذى نزل عليك، وهو القرآن.
فالمراد بالذين أوتوا الكتاب: المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله. والمراد بالكتاب جنسه. والضمير فى "به" يعود إلى القرآن الكريم الذى أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وخص هؤلاء المؤمنين منهم بإيتاء الكتاب، على سبيل المدح لهم. لأنهم انتفعوا بما أوتوه من علم وعملوا بمقتضاه، أما غيرهم من بقى على كفره، فلكونه لم ينتفع بما فى الكتاب من هدايات، فكأنه لم يره أصلاً.
وقوله: { وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ } أى: ومن هؤلاء العرب الذين أرسلت إليهم - أيها الرسول الكريم - من يؤمن بهذا القرآن الذى أنزلناه إليك.
و"من" للتبعيض، لأنهم لم يؤمنوا جميعاً، وإنما آمن منهم من هداه الله - تعالى - إلى الصراط المستقيم.
{ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، وعلى صدقك فيما تبلغه عنا، { إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ } أى: إلا الموغلون فى الكفر، المصرون عليه إصراراً تاماً.
والجحود: إنكار الحق مع معرفة أنه حق.
وعبر عن الكتاب بالآيات، للإِشعار بأنها فى غاية الظهور والدلالة على كونها من عند الله - تعالى -، وأنه ما يكذب بها إلا من غطى الحق بالباطل عن تعمد وإصرار.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن من الناس من قابل هذا القرآن بالتصديق والإِذعان، ومنهم من قابله بالجحود والنكران.
ثم ساق - سبحانه - أبلغ الأدلة وأوضحها على أن هذا القرآن من عنده - تعالى -، فقال: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ }.
أى: أنت - أيها الرسول الكريم - ما كنت فى يوم من الأيام قبل أن ننزل عليك هذا القرآن - تالياً لكتاب من الكتب، ولا عارفاً للكتابة، ولو كنت ممن يعرف القراءة والكتابة، لارتاب المبطلون فى شأنك، ولقالوا إنك نقلت هذا القرآن بخطك من كتب السابقين.
و { مِن } فى قوله { مِن كِتَابٍ } لتأكيد نفى كونه صلى الله عليه وسلم قارئاً لأى كتاب من الكتب قبل نزول القرآن عليه.
وقوله: { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } لتأكيد نفى كونه صلى الله عليه وسلم يعرف الكتاب أو الخط.
قال الإِمام ابن كثير: وهكذا صفته صلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمة، كما قال - تعالى -:
{ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ.. } وهكذا كان صلوات الله وسلامه عليه - إلى يوم القيامة، لا بحسن الكتابة، ولا يخط سطرا ولا حرفاً بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحى والرسائل إلى الأقاليم..."
والمراد بالمبطلين، كل من شك فى كون هذا القرآن من عند الله - تعالى - سواء أكان من مشركى مكة أم من غيرهم.
وسماهم - سبحانه - مبطلين، لأن ارتيابهم ظاهر بطلانه ومجانبته للحق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لبث فيهم قبل النبوة أربعين سنة، يعرفون حسبه ونسبه، ويعلمون حق العلم أنه أمى لا يعرف الكتابة والقراءة.
ثم بين - سبحانه - حقيقة هذا الكتاب المعجز فقال: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ... }.
أى: هذا الكتاب ليس أساطير الأولين اكتتبها الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعم المبطلون - بل هو آيات بينات واضحات راسخات، فى صدور المؤمنين به، الذين حفظوه وتدبروه وعملوا بتوجيهاته وإرشاداته، وعملوا بما فيه من حكم وأحكام وعقائد وآداب.
ووصف الله - تعالى - المؤمنين بهذا القرآن بالعلم على سبيل المدح لهم، والإِعلاء من شأنهم، حيث استطاعوا عن طريق ما وهبهم - سبحانه - من علم نافع، أن يوقنوا بأن هذا من عند الله، ولو كان من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ } تذييل المقصود به ذم الذين تجاوزا كل حق وصدق فى أحكامهم وتصرفاتهم.
أى: وما يجحد آياتنا مع وضوحها وسطوعها، وينكر كونها من عند الله - تعالى -، إلا الظالمون المتجاوزون لكل ما هو حق، ولكل ما هو صدق.
ثم قصت علينا السورة الكريمة بعد ذلك طرفاً من أقوال المشركين الفاسدة وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يزهق باطلهم، كما قصت علينا لونا من ألوان جهالاتهم، حيث استعجلوا العذاب الذى لا يستعجله عاقل. فقال - تعالى -: { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ...مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.