التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
١١٨
هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١١٩
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
١٢٠
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى ما ملخصه: اختلفوا فى الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ فقيل هم اليهود، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم فى أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف. وقيل هم المنافقون، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون يظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار، والدليل عليه قوله تعالى: { بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار".
والبطانة فى الأصل: داخل الثوب، وجمعها بطائن. قال - تعالى -: { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ }. وظاهر الثوب يسمى الظهارة، والبطانة - أيضاً - الثوب الذى يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار، وما فوقه الدثار وفى الحديث
"الأنصار شعار والناس دثار" .
ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها. قال الشاعر:

أولئك خلصائى نعم وبطانتىوهم عيبتى من دون كل قريب

وقوله: { مِّن دُونِكُمْ } أى من غير أهل ملتكم.
والمعنى: لا يجوز لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم التى لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم.
قال القرطبى: "نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم فى الآراء ويسندون إليهم أمورهم. وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" . وقيل لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إن ها هنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين".
ثم قال القرطبى -رحمه الله -: قلت وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء. روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه. وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله" .
وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإِيمان، للإِشعار بأن مقتضى الإِيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله: { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقاً بمحذوف، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم. ويجوز أن يكون متعلقا بقوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ } أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم.
ثم ذكر - سبحانه - جملة من الأسباب التى تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم فى عقيدتهم فقال فى بيان أول هذه الأسباب: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وأصل "الألو": التقصير. يقال: ألا فى الأمر - كغزا - يألو ألواً وألوا، إذا قصر فيه، ومنه قول امرىء القيس:

وما المرء ما دامت حشاشة نفسهبمدرك أطراف الخطوب ولا آل

أراد ولا مقصر، وهو - أى الفعل "يألو" من الأفعال اللازمة التى تتعدى إلى المفعول بالحرف، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كما فى قولهم: لا آلوك نصحاً، على تضمين الفعل معنى المنع. أى لا أمنعك ذلك.
والخبال: الشر والفساد. وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطراباً. يقال خبله وخبله فهو خابل. والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطراباً وفساداً فى قواه العقلية والفكرية.
والمعنى: أنهاكم - أيها المؤمنون - عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين، لا يقصرون فى جهد يبذلونه فى إفساد أمركم، وفيما يورثكم شرا وضرا. أو لا يمنعونكم خبالا، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئاً منه عندهم، بل يبذلون قصارى جهدهم فى إلحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم.
وقوله: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم. أو صفة لقوله: { بِطَانَةً }.
وقوله: { خَبَالاً } منصوب على أنه المفعول الثانى ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم.
ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا.
أما السبب الثانى الذى يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه - سبحانه - بقوله: { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ }.
وقوله: { وَدُّواْ } من الود وهو المحبة. يقال: وددت كذا أى أحببته.
وقوله: { عَنِتُّمْ } من العنت وهو شدة الضرر والمشقة. ومنه قوله - تعالى -:
{ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } أى لأوقعكم فيما يشق عليكم.
و { مَا } فى قوله: { مَا عَنِتُّمْ } هى ما المصدرية. أى: أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم، بجانب أنهم لا يألون جهدا فى إفساد أمركم، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم، وتفريق جمعكم، وذهاب قوتكم.
فالجملة الأولى وهى قوله: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } بمنزلة المظهر والنتيجة، وهذه. أى قوله تعالى: { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } بمنزلة الباعث والدافع.
فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران. وليس بعاقل ذلك الذى يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله.
وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله: { قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }.
والبغضاء مصدر كالسراء والضراء، وهى البغض الشديد المتمكن فى النفوس، والثابت فى القلوب.
أى: قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم، وطفح البغض الباطن فى قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم، ولاح على صفحات وجوههم، وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان. ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذى ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير.
وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة. للإِشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم فى أقوالهم الباطلة، فهم أشد جرما من المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال - تعالى -: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }.
أى قد بينا لكم العلامات الواضحات، والآيات البينات التى تعرفون بها أعداءكم، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو، إن كنتم من أهل العقل والفهم.
والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر فى هذه الآيات التى بينها الله لهم فضلا منه وكرما، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم فى العقيدة والدين.
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم.
ثم ذكر - سبحانه - أموراً أخرى من شأنها أن تجعل المؤمنين يقلعون عن مباطنة ومصافاة أعدائهم فى الدين فقال: { هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أى ها أنتم أولاء أيها المؤمنون تحبون هؤلاء الذين يخالفونكم فى عقيدتكم، وتتمنون لهم الهداية والخير، بينما هم لا يحبونكم ولا يريدون لكم إلا الشرور والهزائم والضعف.
وفى هذه الجملة الكريمة عتاب ولوم للمؤمنين الذين يلقون إلى أعدائهم بالمودة، ويكشفون لهم عن أسرارهم ودخائلهم.
و { هَآ } حرف تنبيه، وقوله: { أَنْتُمْ } مبتدأ وقوله: { أُوْلاۤءِ } خبره، وقوله: { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } كلام مستأنف لبيان خطئهم فى موالاتهم ومحبتهم لمن يبغضونهم ويخالفونهم فى الدين.
وبعضهم جعل { أَنْتُمْ } مبتدأ، وقوله: { أُوْلاۤءِ } منادى حذف منه حرف النداء، وقوله: { تُحِبُّونَهُمْ } هو الخبر عن المبتدأ.
وبعضهم جعل جملة { تُحِبُّونَهُمْ } فى موضع نصب على الحال من اسم الإِشارة الذى هو الخبر.
والمراد بالكتاب فى قوله: { وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ } جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه.
أى أنتم أيها المؤمنون تحبونهم وهم لا يحبونكم، وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية التى أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بشىء من كتابكم الذى أنزله الله على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم بطانة من دون إخوانكم المؤمنين؟ لا شك أن من يفعل ذلك يكون بعيدا عن الطريق القويم، والعقل السليم.
ثم بين - سبحانه - سبباً ثالثاً يدل على قبيح مخالطتهم ومصافاتهم فقال - تعالى -: { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ }.
والعض هو الإِمساك بالأسنان أى تحامل الأسنان بعضها على بعض. يقال: عض يعض عضاً وعضيضاً إذا تحامل بأسنانه على الشىء.
والأنامل جمع أنملة، وهى أطراف الأصابع. وقيل هى الأصابع.
والغيظ: أشد الغضب. وعضهم الأنامل كناية عن شدة غضبهم وتحسرهم وحنقهم على المؤمنين.
أى أن هؤلاء الذين يواليهم بعضكم أيها المؤمنون بلغ من نفاقهم وسوء ضمائرهم أنهم إذا لقوكم قالوا آمنا بدينكم وبنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وإذا خلوا، أى خلا بعضهم ببعض أكل الحقد قلوبهم عليكم، وسلقوكم بألسنة حداد، وتمنوا لكم المصائب، وأظهروا فيما بينهم أشد ألوان الغيظ نحوكم بسبب ما يرونه من ائتلافكم، واجتماع كلمتكم، وعجزهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفى منكم. وإلحاق الأضرار بين صفوفكم.
ومن كان كذلك فى كفره ونفاقه، كان من الواجب على كل مؤمن أن يحتقره وأن يبتعد عنه؛ لأنه لا يزيد للمؤمنين إلا شرا.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يكبت هؤلاء المنافقين ويبقى حسرتهم فقال: { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }.
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم: ولكل مؤمن من أتباعه لتحريضه على مقاطعة هؤلاء الذين لا يريدون إلا الشر.
أى: قل لهم دوموا على غيظكم واستمروا عليه إلى أن تموتوا. فإن قوة الإِسلام وعزة أهله التى جعلتكم تبغضون المؤمنين ستبقى وستستمر، وإن أحقادكم على المسلمين لن تنقص من قوتهم وعلو كلمتهم شيئاً.
فالمراد الدعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، وهذا يستلزم أن يستمر ما يغيظهم ويكبتهم وهو نجاح الإِسلام وقوته.
والباء فى قوله: { بِغَيْظِكُمْ } للملابسة، أى موتوا متلبسين بغيظكم وحقدكم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أى محيط بما خفى فيها، ومطلع على ما يبيته هؤلاء المنافقون للمسلمين، وسيحاسبهم عليه حسابا عسيراً. ويعذبهم بسبب ذلك عذابا أليما.
قال الجمل: وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، أخبر الله - تعالى - بذلك. لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد. ويحتمل أن تكون من جملة المقول، أى قل لهم كذا وكذا فتكون فى محل نصب بالقول، ومعنى قوله: { بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أى بالمضمرات ذوات الصدور. فذات هنا تأنيث ذى بمعنى صاحبة الصدور. وجعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب الجنة وأصحاب النار.
وفى هذه الجملة الكريمة تطييب لقلب النبى صلى الله عليه وسلم ولقلوب أصحابه. حيث بين - سبحانه - لهم أنه ناصرهم، وأنه كاشف لهم أمر أعدائهم متى أطاعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء الذين يضمرون لهم كل شر وضغينة بطانة لهم.
ثم ذكر - سبحانه - لونا آخر من ألوان بغض هؤلاء الكافرين للمؤمنين فقال - سبحانه -: { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } والمس: أصله الجس باليد. أطلق على كل ما يصل إلى الشىء على سبيل التشبيه، فيقال: فلان مسه النصب أو التعب، أى أصابه.
والمراد بالحسنة هنا منافع الدنيا على اختلاف ألوانها، كصحة البدن، وحصول النصر، ووجود الألفة والمحبة بين المؤمنين.
أى إن تمسسكم - أيها المؤمنون - حسنة كنصركم على أعدائكم. وإصلاح ذات بينكم، { تَسُؤْهُمْ } أى تحزنهم وتملأ قلوبهم غيظا عليكم، { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } كنزول مصيبة بكم، يفرحوا بها. أى يبتهجوا بها، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا بسبب ما نزل بكم من مكاره.
فالجملة الكريمة بيان لفرط عداوة هؤلاء المنافقين للمؤمنين، حيث يحسدونهم على ما ينالهم من خير، ويشمتون بهم عندما ينزل بهم شر.
وعبر فى جانب الحسنة بالمس، وفى جانب السيئة بالإِصابة، للإِشارة إلى تمكن الأحقاد من قلوبهم، بحيث إن أى حسنة حتى ولو كان مسها للمؤمنين خفيفاً وليس غامراً عاما فإن هؤلاء المنافقين يحزنون لذلك، لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمنين حتى ولو كان هذا الخير ضئيلا.
أما بالنسبة لما يصيب المؤمنين من مكاره، فإن هؤلاء المنافقين لا يفرحون بالمصيبة التى تمس المؤمنين مساً خفيفاً، فإنها لا تشفى غيظهم وحقدهم، وإنما يفرحون بالمصائب الشديدة التى تؤذى المؤمنين فى دينهم ودنياهم أذى شديدا ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بإرشاد المؤمنين إلى الدواء الذى يتقون به كيد أعدائهم وأعدائه فقال - تعالى -: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }.
وقوله: { تَصْبِرُواْ } من الصبر وهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل.
وقوله: { وَتَتَّقُواْ } من التقوى وهى صيانة الإِنسان نفسه عن محارم الله.
وقوله: { كَيْدُهُمْ } من الكيد وهو أن يحتال الشخص ليوقع غيره فى مكروه.
والمعنى: { وَإِن تَصْبِرُواْ } أيها المؤمنون على طاعة الله، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا فى محبة من لا يستحق المحبة، وتتحملوا بعزيمة صادقة مشاق التكاليف التى كلفكم الله بها، وتقاوموا العداوة بمثلها { وَتَتَّقُواْ } الله - تعالى - فى كل ما نهاكم عنه، وتمتثلوا أمره فى كل ما أمركم به، إن فعلتم ذلك { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } وتدبيرهم السىء { شَيْئاً } من الضرر ببركة هاتين الفضيلتين: الصبر والتقوى، فإنهما جامعتان لمحاسن الطاعات، ومكارم الأخلاق.
وإن لم تفعلوا ذلك أصابكم الضرر، واستمكنوا منكم بكيدهم ومكرهم، قال الجمل ما ملخصه: وقوله: { لاَ يَضُرُّكُمْ } وردت فيه قراءتان سبعيتان:
إحداهما: بضم الضاد وضم الراء مع التسديد - من ضر يضر.
والثانية: { لاَ يَضِرْكُمْ } بكسر الضاد وسكون الراء - من ضار يضير. والفعل فى كليهما مجزوم جواباً للشرط، وجزمه على القراءة الثانية "يضركم" ظاهر، وعلى القراءة الأولى "يضركم" يكون مجزوماً بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإِتباع للتخلص من التقاء الساكنين، وأصل الفعل يضرركم - بوزن ينصركم - نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد ثم أدغمت فى الثانية، وحركت الثانية بالضم إتباعاً لحركة الضاد".
وقوله: { شَيْئاً } نصب على المصدرية. أى لا يضركم كيدهم شيئاً من الضرر لا قليلا ولا كثيرا بسبب اعتصامكم بالصبر والتقوى.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تذييل قصد به إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين، والرعب فى قلوب أعدائهم.. أى إنه - سبحانه - محيط بأعمالهم وبكل أحوالهم، ولا تخفى عليه خافية منها، وسيجازيهم عليها بما يستحقونه من عذاب أليم بسبب نياتهم الخبيثة، وأقوالهم الذميمة. وأفعالهم القبيحة.
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين بأسلوب بليغ حكيم عن مصافاة من يخالفونهم فى الدين، وذكرت لهم من صفات وأحوال هؤلاء المخالفين ما يحملهم على منابذتهم والحذر منهم والبعد عنهم، وأرشدتهم إلى ما يعينهم على النصر عليهم وعلى التخلص من آثار مكرهم وكيدهم.
وإنها لوصايا حكيمة وتوجيهات سديدة، وإرشادات عالية، ما أحوج المسلمين فى كل زمان ومكان إلى العمل بها لكى يفلحوا فى دنياهم وآخرتهم.
تدبر معى - أخى القارىء - هذه الآيات مرة أخرى فماذا ترى؟
إنك تراها توجه إلى المؤمنين نداء محببا إلى نفوسهم، محركا لحرارة العقيدة فى قلوبهم.. حيث نادتهم بصفة الإِيمان، ونهتهم فى هذا النداء عن اتخاذ أولياء وأصفياء لهم من غير إخوانهم المؤمنين. ولكن هل اكتفت بهذا النهى مع أنه كفيل بحجز المؤمنين عما نهتهم عنه؟
كلا، إنها لم تكتف بذلك، بل ساقت لهم صورة كاملة السمات لأحوال أعدائهم، صورة ناطقة بدخائل نفوسهم، وبمشاعرهم الظاهرة والخفية، وبانفعالاتهم القلبية والجسدية، وبحركاتهم الذاهبة والآيبة، صورة ناطقة بحالهم عندما يلتقون بالمؤمنين، وبحالهم عندما يفارقونهم ويخلون بأنفسهم، أو عندما يلتقون بأمثالهم من الضالين. صورة ناطقة بسرورهم عند ما تصيب المسلمين مصيبة، وبحزنهم عندما يرون المؤمنين فى نعمة يسيرة.
صورة ناطقة بموقف المؤمنين منهم وبموقفهم هم من المؤمنين ثم بعد رسم هذه الصورة العجيبة المتكاملة لهم، يسوق القرآن للمؤمنين أسمى وأحكم ألوان التوجيه والإِرشاد الذى يجعلهم فى مأمن من كيدهم ومكرهم { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً }.
أرأيت - يا أخى - كيف ربى القرآن أتباعه أكمل تربية وأحكمها وأسماها؟ إنه نهاهم أولا عن مباطنة أعدائهم، ثم ساق لهم بعد ذلك من أوصافهم وأحوالهم ما يقنعهم ويحملهم على البعد عنهم، ثم أرشدهم إلى الدواء الذى ينجيهم من مكرهم.
فما أحكمه من توجيه. وما أسماه من إرشاد، وإن ذلك ليدل على أن هذا القرآن من عند الله
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } وإلى هنا تكون سورة آل عمران قد حدثتنا - من بين ما حدثتنا - فى مائة وعشرون آية منها، عن بعض الأدلة على وحدانية الله - تعالى -، وعن مظاهر قدرته ورحمته، وعن كتبه التى أنزلها على أنبيائه لسعادة الناس وهدايتهم وعن حب الناس للشهوات وعما هو أسمى وأفضل من هذه الشهوات الزائلة، وعن المجادلات التى حدثت بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكتاب فيما يتعلق بوحدانية الله - تعالى - وبصحة دين الإِسلام، وعن جوانب من قصة آل عمران وما اشتملت عليه من عظات وعبر، وعن الشبهات التى آثارها اليهود حول الدعوة الإِسلامية والمسالك الخبيثة التى سلكوها فى حربهم لها وكيف رد القرآن عليهم بما يفضحهم ويكشف عن كذبهم، ويجعل المؤمنين يزدادون إيمانا على إيمانهم.
والخلاصة أن السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا قد ساقت - من بين ما ساقت - ألوانا من الحرب النفسية التى شنها أهل الكتاب على الدعوة الإِسلامية، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويبصرهم بالحق - إن كانوا طلاب حق - وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات، ما يهدى قلوبهم، ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم.
وبعد هذا السبح الطويل فى الحديث عما دار بين المسلمين وبين أعدائهم من حرب كلامية وفكرية ونفسية... انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن حروب السيف والسنان، وما صاحبها من أفكار وأقوال وأفعال.
فقد حدثتنا السورة الكريمة فى حوالى ستين آية عن جوانب متعددة من غزوة "أحد" تلك الغزوة التى كانت لها آثارها الهامة فى حياة المسلمين وأحوالهم.
ولعل من الخير - قبل أن نبدأ فى تفسير الآيات الكريمة التى وردت فى سورة آل عمران بشأن هذه الغزوة - أن نسوق خلاصة تاريخية لهذه الغزوة تعين على فهم الآيات المتعلقة بها، فنقول:
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة فى تاريخ الدعوة الإِسلامية، فقد انتصر المسلمون فيها انتصارا مؤزرا على كفار قريش.
وصمم المشركون على أن يأخذوا بثأرهم من المسلمين، فجمعوا جموعهم، وخرجوا فى جيش كبير، ومعهم بعض نسائهم حتى يكون ذلك أبلغ فى استماتة الرجال فى القتال.
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة فى أوائل شوال من السنة الثالثة، وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل.
واستشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى شأن هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة.
فكان رأى بعضهم - ومعظمهم من الشباب - الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة.
وكان من رأى فريق آخر من الصحابة، استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأى هذا الفريق، إلا أنه آثر الأخذ برأى الفريق الأول الذى يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة، نظراً لكثرة عدد القائلين بذلك.
ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم بيته، ثم خرج منه وقد لبس آلة حربه، وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبى صلى الله عليه وسلم على القتال، فأظهروا له الرغبة فى النزول على رأيه، إلا أنه لم يستجب لهم، وقال كلمته التى تعلم الناس الحزم وعدم التردد:
"ما ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس. وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه" .
ثم خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريباً من جبل "أحد" إلا أن "عبد الله بن أبى بن سلول" انسحب فى الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه، بل أخذ برأى غيره.
وعسكر المسلمون بالشعب من أحد، جاعلين ظهرهم إلى الجبل، ورسم النبى صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة، فجاءت خطة محكمة رائعة. فقد وزع الرماة على أماكنهم - وكانوا خمسين راميا -، وقال لهم:
"انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فالزموا أماكنكم لا نؤتين من قبلكم" .
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أحموا ظهورنا، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا. وإن رأيتمونا نغنم فلا تُشركونا" .
وأخيراً التقى الجمعان، وأذن النبى صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجالدوا أعداءهم، وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإِقدام، وكان شعارهم فى هذا الالتحام "أمت أمت".
وما هى إلى جولات فى أوائل المعركة، حتى ولى المشركون المسلمين الأدبار، ولم يغن عن المشركين شيئاً ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم.
قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله - تعالى - نصره، وصدق وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعكسر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ورأى الرماة الهزيمة وهى تحل بقريش، فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم، وحاول أميرهم، عبد الله بن جبير أن يمنعهم من ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظمهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا فى جمع الغنائم والأسلاب.
وأدرك خالد بن الوليد - وكان ما زال مشركا - أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم، فاهتبل الفرصة على عجل، واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم، وأخذ فى مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا أنهم سيهاجمون منه، فقد كانوا يعتمدون على الرماة فى حماية ظهورهم.
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين، بعد أن رأوا ما فعله خالد ومن معه.
واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجىء الذى حدث لهم، إلا أن فريقا منهم أخذ يقاتل ببسالة وصبر. واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم.
وأصيب النبى صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة، وأشيع أنه قد قتل، إلا أنه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين: إلىّ عباد الله، إلى عباد الله.. فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا، ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين..
ومرت على المسلمين ساعة من أحرج الساعات فى تاريخ الدعوة الإِسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعناد وحقد، وكان المسلمون مستميتين فى الدفاع عن رسولهم صلى الله عليه وسلم وعن أنفسهم.
وكان لهذه الاستماتة آثارها فى تراجع المشركين، وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين...
وخشى النبى صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة، فقال لعلى بن أبى طالب:
"اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإِبل، فإنهم يريدون مكة. وإن ركبوا الخيل وساقوا الإِبل، فهم يريدون المدينة. فوالذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها" .
قال على: فخرجت فى آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل، وامتطوا الإِبل، واتجهوا إلى مكة.
وعندما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل له: نعم بيننا وبينك موعد.
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالى سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وسعد بن الربيع. وغيرهم من الأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وهذه خلاصة لأحداث غزوة أحد كما روتها كتب السيرة.
والآن فلنول وجوهنا شطر القرآن الكريم، لنتدبر حديثه الحكيم عن هذه الغزوة، ولنستمع إليه بقلوب واعية، وآذان متفتحة، وهو يبدأ حديثه عنها فيقول: { وَإِذْ غَدَوْتَ... }.