التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ
١٥٩
إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٦٠
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٦١
أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦٢
هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٦٣
لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
١٦٤
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الخطاب فى قوله - تعالى - { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }... ألخ للنبى صلى الله عليه وسلم.
والفاء لترتيب الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه. صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية.
والباء هنا للسببية، و "ما" مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة "لنت" من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و "الفظ" الغليظ الجافى فى المعاشرة قولا وفعلا.
وأصل الفظ - كما يقول الراغب - ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلا فى أشد حالات الضرورة.
وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة، وتنشأ عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء.
والمعنى: فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك فى كل أحوالك، ولكن بدون إفراط أو تفريط، فقد وقفت من أخطائهم التى وقعوا فيها فى غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم.. بل كنت لينا رفيقا معهم.
وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس، وإنما يلتفت إلى الماضى ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس فى نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة واطمئنان وبصيرة مستنيرة.
وإن الشدة فى غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى، وذا قال - تعالى - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }.
أى ولو كنت - يا محمد - كريه الخلق، حشن الجانب، جافيا فى أقوالك وأفعالك، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك... ولو كنت كذلك { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك.
فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا، لأن "لو" تدل على نفى الجواب لنفى الشرط. أى أنك لست - يا محمد - فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم.
وقال - سبحانه - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ } لينفى عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة فى الظاهر والباطن: إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو فى الفظاظة التى هى خشونة الجانب، وجفاء الطبع، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها. والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى وصفه:
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إنى أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمة. إنه ليس بفظ، ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
ولقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مداراة الناس إلا أن يكون فى المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها، قالت:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض" .
ثم أمر الله تعالى، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ }.
فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك، ورحمتك بهم، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم فى أُحد، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها.
وأن تلتمس من الله تعالى، أن يغفر لهم ما فرط منهم، إذ فى إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم، وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك. وأن تشاورهم فى الأمر أى فى أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة فى العادة من الأمور التى تهم الأمة.
وقد جاءت هذه الأوامر للنبى صلى الله عليه وسلم، على أحسن نسق، وأحكم ترتيب، لأن الله تعالى أمره أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعات، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة، أمره بأ يشاورهم فى الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة.
ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها، وعن فوائدها، فقد قال القرطبى ما ملخصه: والاستشارة مأخوذة من قول العرب: شُرْتُ الدابة وشَوَّرتها، إذا علمت خبرها وحالها يجرى أو غيره.. وقد يكون من قولهم: شُرْتُ العسل واشْتَرتُه، إذا أخذته من موضعه.
ثم قال: واختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة: ذلك فى مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، تطييبا لنفوسهم ورفعاً لأقدارهم وإن كان الله - تعالى - قد أغناه عن رأيهم بوحيه.
وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحى. فقد قال الحسن: ما أمر الله - تعالى - نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده.
ثم قال: والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، والذى لا يستشير اهل العلم والدين - والخبرة - فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه.
وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى كثير من الأمور، وقال
"المستشار مؤتمن" وقال "ما ندم من استشار ولا خاب من استخار" وقال: "ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى" .
وقال البخارى: "وكانت الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها".
وقال الفخر الرازى ما ملخصه: "اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه فى جميع الأشياء أولا؟
قال بعضهم: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة فى الحروب، لأن الألف واللام فى لفظ "الأمر" تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب - إذ الكلام فى غزوة أحد -.
وقال آخرون: اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحى فتبقى حجته فى الباقى وظاهر الأمر فى قوله { وَشَاوِرْهُمْ } للوجوب وحمله الشافعى على الندب...
والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم فى الإِسلام، وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غزوات بدر وأحد والأحزاب وفى غير ذلك من الأمور التى تتعلق بمصالح المسلمين، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة.
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور وبتمثل لهم فى كتبه بقول الشاعر:

خليلى ليس الرأى فى صدر واحدأشيرا على بالذى تريان

وقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد:

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعنبرأى نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضةفإن الخوافى قوة للقوادم

والحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين:
إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالى، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذى لا يخالطه باطل، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره.
هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل، ولذا قال - سبحانه - { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ }.
أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه، و { تَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أى اعتمد عليه فى الوصول إلى غايتك، فإن الله - تعالى - يحب المعتمدين عليه، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التى شرعها لهم لكى يصلوا إلى مطلوبهم.
فالجملة الكريمة تأمر النبى صلى الله عليه وسلم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل فى مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة - بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها - فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله، مظهرا العجز أمام قدرته - سبحانه - لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها.
وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا فى نفوسهم، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التى اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله. ورحم الله القائل:

إذا لم يكن عون من الله للفتىفأول ما يجنى عليه اجتهاده

ولقد أكد الله - تعالى - وجوب التوكل عليه بعد ذلك فى قوله: { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ }؟
والمراد بالنصر هنا العون الذى يسوقه لعباده حتى ينتصروا على أعدائهم. والمراد بالخذلان ترك العون. والمخذول، هو المتروك الذى لا يعبأ به.
يقال: خذلت الوحشية إذا أقامت على ولدها فى المرعى وتركت صواحباتها.
والمعنى: إن يرد الله - تعالى - نصركم كما نصركم يوم بدر - { فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } أى فإنه لا يوجد قوم يستطيعون قهركم، لأن الله معكم، ومن كان الله معه فلن يغلبه أحد من الخلق.
وإن يرد أن يخذلكم ويمنع عنكم عونه كما حدث لكم يوم أحد، فلن يستطيع أحد أن ينصركم من بعد خذلانه، لأنه لا يوجد أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله - تعالى - ومشيئته.
والاستفهام هنا إنكارى بمعنى النفى، أى لا أحد يستطيع نصركم إن أراد الله خذلانكم، وهو جواب للشرط الثانى.
وفيه لطف بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة فى الأول، ولم يصرح لهم بأنهم لا ناصر لهم فى الثانى، بل أتى به فى صورة الاستفهام وإن كان معناه نفيا ليكون أبلغ، إذ فى مجيئه على هذه الصورة الاستفهامية توجيه لأنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله - تعالى - ولا شك أنهم لن يجدوه، وعندئذ سيعتقدون عن يقين بأن الله وحده هو الكبير المتعال، وأنه لا ناصر لهم سواه.
وقوله { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أى وعلى الله وحده لا على احد سواه. فليجعل المؤمنون اعتمادهم واتكالهم عليه، لأن الذين يعتمدون على أى قوة سوى الله - تعالى - لن يصلوا إلى العاقبة الطيبة التى أعدها - سبحانه - لعباده المتقين.
فالآية الكريمة كلام مستأنف، وقد سيق بطرق تلوين الخطاب، تشريفا للمؤمنين لايجاب التوكل عليه والترغيب فى طاعته التى تؤدى إلى النصر، وتحذيرا لهم من معصيته التى تفضى إلى الخسران والخذلان.
ثم نهى - سبحانه - عن الغلول ونزه النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } وقوله { يَغُلَّ } من الغلول وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها. يقال: غل فلان شيئاً من المغنم يغل غلولا إذا أخذه خفية. ويقال: أغل الجازر أو السالخ إذا أبقى فى الجلد شيئا من اللحم على طريق الخفية.
وأصله من الغلل وهو دخول الماء فى خلل الشجر خفية. والغل: الحقد الكامن فى الصدر وسميت هذه الخيانة غلولا، لأنها تجرى فى المال على خفاء من وجه لا يحل.
والمعنى: ما صح ولا استقام لنبى من الأنبياء أن يخون فى المغنم، لأن الخيانة تتنافى مع مقام النبوة الذى هو أشرف المقامات { وَمَن يَغْلُلْ } أى ومن يرتكب شيئاً من ذلك، { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أى يأت بما غله يوم القيامة حاملا إياه ليكون فضيحة له يوم الحشر، ليؤخذ بإثم غلوله وخيانته.
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه أبو داود والترمذى عن ابن عباس قال: "نزلت هذه الآية" { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر. فقال بعض الناس: لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها، وأكثروا فى ذلك فأنزل الله الآية".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً أن المنافقين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء فُقِد، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ }.
قال ابن كثير - بعد أن ساق هاتين الروايتين - وهذا تنزيه له صلى الله عليه وسلم من جميع وجوه الخيانة فى أداء الأمانة وقسمة الغنيمة وغير ذلك.
وفى ورود هذه الآية الكريمة فى سياق الحديث عن غزوة أحد، حكمة عظيمة، وتأديب من الله للمؤمنين، وتحذير لهم من الغلول، ذلك أن الرماة الذين تركوا أماكنهم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعهم لذلك خشيتهم من أن ينفرد المقاتلون بالغنائم، ففعلوا ما فعلوا، ولقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة:
"أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم" .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم فى كثير من الأحاديث عن الغلول ومن ذلك ما أخرجه الإِمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق - أى ثياب - فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيام على رقبته صامت - أى ذهب وفضة - فيقول: يا رسول الله أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك" .
هذا، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والنسة تؤيد ذلك. ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها.
ومن العلماء من جعل الإِتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإِتيان بإثمه تعبيراً بما غل عما لزمه من الإِثم مجازا.
قال الفخر الرازى: "واعلم أن هذا التأويل - المجازى - يحتمل، إلا أن الأصل المعتبر فى علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه. وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته".
ومن المفسرين الذين حملوا الإِتيان على ظاهره الإِمام القرطبى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذباً بحماه وثقله ومرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد.
وقال بعد إيراده للحديث السابق الذى رواه مسلم عن أبى هريرة: قيل الخبر محمول على شهرة الأمر. أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة.
قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل - كما فى كتب الأصول - وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس".
ثم نبه - سبحانه - على العقوبة التى ستحل بالخائن، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزى فقال: { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
أى: ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاماً، وهم لا يظلمون شيئاً، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذى لا يظلم أحداً.
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله { وَمَن يَغْلُلْ } وجاء العطف بثم المفيدة للتراخى، للإِشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة.
وقال - سبحانه - { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ }... بصيغة العموم، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا - لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم، الاعلام والإِخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين بأن كل إنسان سيجازى على عمله سواء أكان خيرا أو شراً. فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضاً فكأنه قد ذكر مرتين.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: فإن قلت: هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل به؟ قلت: جىء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب.
ثم أكد - سبحانه - نفى الظلم عن ذاته فقال: { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } بأن واظب على ما يرضيه، والتزم طاعته، وترك كل ما نهى عنه من غلول وغيره { كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أى كمن رجع بغضب عظيم عليه من الله بسبب غلوله وخيانته وارتكابه لما نهى الله عنه من أقوال وأفعال؟
فالآية الكريمة تفريع على قوله - تعالى - قبل ذلك { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وتأكيد لبيان أنه لا يستوى المحسن والمسىء والأمين والخائن.
والاستفهام إنكارى بمعنى النفى، أى لا يستوى من اتبع رضوان الله مع من باء بسخط منه.
وقد ساق - سبحانه - هذا الكلام الحكيم بصيغة الاستفهام الإِنكارى، للتنبيه على أن عدم المساواة بين المسحن والمسىء أمر بدهى واضح لا تختلف فيه العقول والأفهام، وأن أى إنسان عاقل لو سئل عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوى من اتبع رضوان الله مع من رجع بسخط عظيم منه بسبب كفره أو فسقه وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } وقوله { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ } والفاء فى قوله { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ } للعطف على محذوف والتقدير، أمن اتقى فاتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله؟
ثم أعقب - سبحانه - ذكر سخطه بذكر عقوبته فقال: { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أى أن هذا الذى رجع بغضب عظيم عليه من الله - تعالى - بسبب كفره أو فسوقه أو خيانته، سيكون مثواه ومصيره إلى النار وبئس ذلك المصير الذى صار إليه وكان له مرجعا ونهاية.
ثم بين - سبحانه - النتيجة التى ترتبت على عدم تساوى المحسن والمسىء فقال { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }.
والضمير { هُمْ } يعود على { مَنِ } فى قوله { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } وقوله { كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أى على الفريقين. وبعضهم جعل مرجعه إلى الفريق الأول فقط.
والدرجات: جمع درجة وهى الرتبة والمنزلة، ومنه الدرج بمعنى السلم لأنه يصعد عليه درجة بعد درجة.
وأكثر ما تستعمل الدرجة فى القرآن فى المنزلة الرفيعة، كما فى قوله - تعالى -
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } بخلاف الدركة فإنها تستعمل فى عكس ذلك، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } ولذا قال الراغب: "الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدور فى النار سميت هاوية...".
والمعنى: هم أى الأخيار الذين اتبعوا رضوان الله، والأشرار الذين رجعوا بسخط منه متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم كما تتفاوت الدرجات وإطلاق الدرجات على الفريقين من باب التغليب للأخيار على الأشرار والمراد إن الذين اتبعوا رضوان الله يتفاوتون فى الثواب الذى يمنحهم الله إياه على حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم.
كما أن الذين باءوا بسخط منه يتفاوتون فى العقاب الذى ينزل بهم على حسب ما اقترفوه من شرور وآثام، فمن أوغل فى الشرور والآثام كان عقابه أشد من عقاب من لم يفعل فعله وهكذا.
والذين قالوا إن الضمير { هُمْ } يعود على الفريق الأول فقط احتجوا بأن التعبير بالدرجات يستعمل فى الغالب فى الثواب، وبأن الله قد أضاف هذه الدرجات لنفسه فدل ذلك على أن المقصود بقوله: هم الذين اتبعوا رضوان الله. وبأن هؤلاء الذين اتبعوا رضوان الله قد فضل الله بعضهم على بعض كما جاء فى بعض الآيات ومنها قوله:
{ ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } }. والذى نراه أن عودة الضمير "هم" على الفريقين أقرب إلى الحق، لأن تفاوت الدرجات موجود بين الأخيار كما أن تفاوت العقوبات موجود بين الأشرار، فالذين أدوا جميع ما كلفهم الله به من طاعات ليسوا كالذين اكتفوا بأداء الفرائض. والذين انحدروا فى المعاصى إلى النهاية ليسوا كالذين وقعوا فى بعضها.
وقوله { عِندَ ٱللَّهِ } أى فى حكمه وعلمه وهو تشريف لهم والظرف متعلق بدرجات على المعنى، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لها. أى درجات كائنة عند الله.
وقوله { وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى مطلع على أعمال العباد صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها، لا يغيب عنه شىء، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه على حسب عمله، بمقتضى علمه الكامل، وعدله الذى لا ظلم معه.
وبعد أن نزه الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص، وبين أن الناس متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم.
بعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله - سبحانه - على عباده فى أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال - تعالى -: { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ }.
قال الرازى: قال الواحدى: "للمن فى كلام العرب معان:
أحدها: الذى يسقط من السماء، وهو قوله:
{ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } وثانيها: أن تمن بما أعطيت كما فى قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } وثالثها: القطع كما فى قوله { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها الإِنعام والإِحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه - وهو المراد هنا".
والمعنى: لقد أنعم الله على المؤمنين، وأحسن إليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر، هو من العرب أنفسهم، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى من نفس العرب، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب، وقد بعثه الله عربيا مثلهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته.
ويصح أن يكون معنى قوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة، ليخرج الناس - العربى منهم وغير العربى - من ظلمات الشرك إلى نور الإِيمان، وجعل رسالته عامة فقال:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وخص الله - تعالى - منته وفضله بالمؤمنين، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإِسلام، الذى لن يقبل الله دينا سواه والذى جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام.
والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير: والله { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ }.
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }.
والتلاوة: هى القراءة المتتابعة المرتلة التى يكون بعضها تلو بعض.
والتزكية: هى التطهير والتنقية.
أى لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى، لأنه قد بعث فيهم رسولا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التى أنزلها لهدايتهم وسعادتهم، { وَيُزَكِّيهِمْ } أى يطهرهم من الكفر والذنوب. أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية، والاعتقادات الفاسدة.
{ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ } بأن يبين لهم المقاصد التى من أجلها نزل القرآن الكريم، ويشرح لهم أحكامه، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التى قد تخفى على مداركهم.
فتعليم الكتاب غير تلاوته: لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب.
ويعلمهم كذلك { ٱلْحِكْمَةَ } أى الفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التى يكمل بها العلم بالكتاب.
وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التى منحها الله تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم بين - سبحانه - حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }.
أى: إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فى ضلال بين واضح لا يخفى أمره على أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة.
وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإِسلام الذى جاء به صلى الله عليه وسلم من عند ربه فى ضلال واضح، وظلام دامس، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئاً مألوفا، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل فى كثير من شئونهم.
والخلاصة أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل، كانت قد استشرت فى العالم بصورة لا تخفى على عاقل.
فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإِيمان.
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد فحكت ما قاله ضعاف الإِيمان فى أعقابها، وردت عليهم بما يبطل مقالتهم، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال - تعالى: { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ.... }.