التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمَّآ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٦٥
وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٦٦
وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
١٦٧
ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٦٨
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله تعالى: { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا } الخ مستأنف مسوق لإِبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة، إثر إبطال بعض آخر تقدم الحديث عنه من فوائد غزوة أحد أنها كشفت عن قوة الإِيمان من ضعيفه، ميزت الخبيث من الطيب.
وإذا كان انتصار المسلمين فى بدر جعل كثيراً من المنافقين يدخلون فى الإِسلام طمعا فى الغنائم.. فإن عدم انتصارهم فى أحد قد أظهر المنافقين على حقيقتهم، ويسر للمؤمنين معرفتهم والحذر منهم.
والهمزة فى قوله { أَوَ لَمَّا } للاستفهام الإِنكارى التعجيبى. و "الواو" للعطف على محذوف و "لما" ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة فى الشرط. والمصيبة: أصلها فى اللغة الرمية التى تصيب الهدف ولا تخطئه، ثم أطلقت على ما يصيب الإِنسان فى نفسه أو أهله أو ماله أو غير ذلك من مضار. وقوله { مِّثْلَيْهَا } أى ضعفها، فإن مثل الشىء ما يساويه. ومثليه ضعفه.
والمعنى: أفعلتم ما فعلتم من أخطاء، وحين أصابكم من المشركين يوم أحد نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك فى بدر تعجبتم وقلتم { أَنَّىٰ هَـٰذَا } أى من أين لنا هذا القتل والخذلان ونحن مسلمون نقاتل فى سبيل الله، وفينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداؤنا الذين قَتلوا منا من قَتلوا مشركون يقاتلون فى سبيل الطاغوت.
فالجملة الكريمة توبيخ لهم على ما قالوه لأنه ما كان ينبغى أن يصدر عنهم. إذ هم قد قتلوا من المشركين فى بدر سبعين من صناديدهم وأسروا منهم قريبا من هذا العدد وفى أحد كذلك كان لهم النصر فى أول المعركة على المشركين، وقتلوا منهم قريبا من عشرين إلا أنهم حين خالفوا وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى الغنائم منع الله عنهم نصره، فقتل المشركون منهم قريبا من سبعين.
وقوله { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } فى محل رفع صفة "لمصيبة". وفائدة هذا القول التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على حال واحدة، وإن من شأن الحرب أن تكون سجالا، إلا أن العاقبة جعلها الله للمتقين.
وقوله { قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا } هو موضع التوبيخ والتعجيب من شأنهم، لأن قولهم هذا يدل على أنهم لم يحسنوا وضع الأمور فى نصابها حيث ظنوا أن النصر لا بد أن يكون حليفهم حتى ولو خالفوا أمر قائدهم ورسولهم - صلى الله عليه وسلم - ولذا فقد رد الله - تعالى - عليهم بما من شأنه أن يعيد إليهم صوابهم وبما يعرفهم السبب الحقيقى فى هزيمتهم فقال: { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }.
أى قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا ما قالوا: إن ما أصابكم فى أحد سببه أنتم لا غيركم.
فأنتم الذين أبيتم إلا الخروج من المدينة مع أن النبى صلى الله عليه وسلم أشار عليكم بالبقاء فيها. وأنتم الذين خالفتم وصيته بترككم أماكنكم التى حددها لكم وأمركم بالثبات فيها. وأنتم الذين تطلعت أنفسكم إلى الغنائم فاشتغلتم بها وتركتم النصيحة، وأنتم الذين تفرقتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ساعة الشدة والعسرة فلهذه المخالفات التى نبعت من أنفسكم أصابكم ما أصابكم فى أحد، وكان الأولى بكم أن تعرفوا ذلك وأن تعتبروا وأن تقلعوا عن هذا القول التى لا يليق بالعقلاء، إذ العاقل هو الذى يحاسب نفسه عندما يفاجئه المكروه ويعمل على تدارك أخطائه ويقبل على حاضره ومستقبله بثبات وصبر مستفيدا بماضيه ومتعظا بما حدث له فيه.
وما أحوج الناس فى كل زمان ومكان إلى الأخذ بهذا الدرس فإن كثيرا منهم يقصرون فى حق الله وفى حق أنفسهم وفى حق غيرهم، ولا يباشرون الأسباب التى شرعها الله للوصول إلى النصر.. بل يبنون حياتهم على الغرور والإِهمال، فإذا ما أصابتهم الهزيمة مسحوا عيوبهم فى القضاء والقدر، أو فى غيرهم من الناس، أو شدهوا لهول ما أصابهم - بسبب تقصيرهم - ثم قالوا: أنى هذا؟ وما دروا لجهلهم وغرورهم - أن الله - تعالى - قد جعل لكل شىء سببا. فمن باشر أسباب النجاح وصل إليها بإذن الله ومن أعرض عنها حرمه الله - تعالى - من عونه ورعايته.
ولقد أكد - سبحانه قدرته على كل شىء فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى إن الله تعالى - قدرته فوق كل شىء فهو القدير على نصركم وعلى خذلانكم وبما أنكم قد خالفتم نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد حرمكم الله نصره، وقرر لكم الخذلان، حتى تعتبروا ولا تعودوا إلى ما حدث من بعضكم فى غزوة أحد، ولتذكروا دائما قوله - تعالى -
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ثم أكد - سبحانه - عموم قدرته وإرادته فقال: { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
أى: وما أصابكم - أيها المؤمنون - من قتل وجراح وآلام يوم التقى جمعكم وجمع أعدائكم فى أحد، { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } أى فبإرادته وعلمه، إذ ما من شىء يقع فى هذا الكون إلا بتقدير الله وعلمه، فعليكم أن تستسلموا لإِرادة الله، وأن تعودوا إلى أنفسكم فتهذبوها وتروضوها على تقوى الله وطاعته، حتى تكونوا أهلا لنصرته وعونه.
و "ما" موصولة بمعنى الذى فى محل رفع بالابتداء، وجملة { أَصَابَكُمْ } صلة الموصول، وقوله { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } هو الخبر. ودخلت الفاء فى الخبر لشبه المبتدأ بالشرط. وقوله { وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بيان لبعض الحكم التى من أجلها حدث ما حدث فى غزوة أحد.
والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرر فى الخارج لما قدره - سبحانه - فى الأزل أى أراد الله أن يحدث ما حدث فى غزوة أحد ليظهر للناس ويميز لهم المؤمنين من غيرهم.
وقوله: { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ } حكمة ثانية لما حدث فى غزوة أحد. أى: حدث ما حدث فى غزوة أحد ليعلم - سبحانه - المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية وظهور يتميز معه عند الناس كل فريق عن الآخر تميزا ظاهرا.
إذ أن نصر المسملين فى بدر فتح الطريق أمام المنافقين للتظاهر باعتناق الإِسلام. وعدم انتصارهم فى أحد، كشف عن هؤلاء المنافقين وأظهرهم على حقيقتهم، فإن من شأن الشدائد أنها تكشف عن معادن النفوس، وحنايا القلوب.
ثم بين - سبحانه - بعض النصائح التى قيلت لهؤلاء المنافقين حتى يقلعوا عن نفاقهم، وحكى ما رد به المنافقون على الناصحين فقال: { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ }.
أى فعل - سبحانه - ما فعل فى أحد ليميز المؤمنين من المنافقين الذين قيل لهم من النبى صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه: تعالوا معنا لتقاتلوا فى سبيل الله، فإن لم تقاتلوا فادفعوا أى فانضموا إلى صفوف المقاتلين، فيكثر عددهم بكم فإن كثرة العدد تزيد من خوف الأعداء.
أو المعنى: تعالوا معنا لتقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله، فإن لم تفعلوا ذلك لضعف إيمانكم، واستيلاء الشهوات والأهواء على نفوسكم، فلا أقل من أن تقاتلوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن مدينتكم عار الهزيمة.
أى إن لم تقاتلوا طلبا لمرضاة الله، فقاتلوا دفاعا عن أوطانكم وعزتكم.
قال الجمل: وهذه الجملة وهى قوله - تعالى - { وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ } تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مستأنفة، أخبر الله أنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع أى تكثير سواد المسلمين - أى عددهم.
والثانى: أن تكون معطوفة على { نَافَقُواْ } فتكون داخلة فى خبر الموصول. أى وليعلم الذين حصل منهم النفاق والقول المذكور وإنما لم يأت بحرف العطف بين تعالوا وقاتلوا، لأن المقصود أن تكون كل من الجملتين مقصودة بذاتها.
وقوله { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } حكاية لردهم القبيح على من نصحهم بالبقاء مع المجاهدين.
أى قال المنافقون - وهم عبد الله بن أبى وأتباعه - لو نعلم أنكم تقاتلون حقا لسرنا معكم، ولكن الذى نعلمه هو أنكم ستذهبون إلى أحد ثم تعودون بدون قتال لأى سبب من الأسباب.
أو المعنى - كما يقول الزمخشرى - "لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا { لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشىء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لأن رأى عبد الله بن أبى كان فى الإِقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج".
وقال ابن جرير: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فى ألف رجل من أصحابه وحتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة، انخذل عنهم عبد الله بن أبى ابن سلول بثلث الناس وقال. أطاعهم، أى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعصانى. والله ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق والريب، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أخو بنى سلمة - يقول لهم. يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم - وقاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا - فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكننا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عن المؤمنين قال لهم. أبعدكم الله يا أعداء الله فسيغنى الله رسوله عنكم، ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو موقف المنافقين فى غزوة أحد، وهو موقف يدل على فساد قلوبهم، وخبث نفوسهم، وجبنهم عن لقاء الأعداء.
ولقد كان المؤمنون الصادقون على نقيض ذلك، فلقد خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه فكانوا ممن قال الله فيهم:
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } ولقد حكى لنا التاريخ أن بعض المؤمنين الذين كانت لهم أعذارهم التى تسقط عنهم الخروج للجهاد، كانوا يخرجون مع المجاهدين لتكثير عددهم.
فعن أنس بن مالك قال: "رأيت يوم القادسية - عبد الله بن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ فقال: بلى ولكنى أحب أن أكثر المسلمين بنفسى.
هذا، وقد أصدر - سبحانه - حكمه العادل على أولئك المنافقين فقال: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }.
أى هم يوم أن قالوا هذا القول الباطل قد بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مؤمنون، لأنهم قبل أن يقولوا: "لو نعلم قتالا لاتبعناكم" كانوا يتظاهرون بالإِيمان، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإِيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر.
أو المعنى: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإِيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال فيه تقوية للمشركين.
قال الجمل: "وقوله { هُمْ } مبتدأ، وقوله { أَقْرَبُ } خبره، وقوله { لِلْكُفْرِ } وقوله { لِلإِيمَانِ } متعلقان بأقرب، لأن أفعل التفضيل فى قوة عاملين. فكأنه قيل: قربوا من الكفر وقربوا من الإِيمان، وقربهم للكفر فى هذا اليوم أشد لوجود العلامة وهى خذلانهم للمؤمنين".
وقوله { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا فى ذلك اليوم فحسب.
أى أن هؤلاء القوم من صفاتهم الذميمة أنهم يقولون بألسنتهم قولا يخالف ما انطوت عليه قلوبهم من كفر، وما امتلأت به نفوسهم من بغضاء لكم - أيها المؤمنون -.
قال صاحب الكشاف: وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم وأن إيمانهم موجود فى أفواههم معدوم فى قلوبهم، بخلاف صفة المؤمنين فى مواطأة قلوبهم لأفواههم".
وقوله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } تذييل قصد به زجرهم وتوعدهم بسوء المصير بسبب نفاقهم وخداعهم.
أى والله - تعالى - أعلم منكم - أيها المؤمنون - بما يضمره هؤلاء المنافقون من كفر ومن كراهية لدينكم، لأنه - سبحانه - يعلم ما ظهر وما خفى من أمورهم، وقد كشف الله لكم أحوالهم لكى تحذروهم، وسيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم، وسينزل بهم ما يستحقونه من عذاب مهين.
ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التى قصدوا من ورائها الإِساءة إلى المؤمنين، والتشكيك فى صدق تعاليم الإِسلام فقال - تعالى -: { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا }.
أى أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإِخوانهم الذين هم مثلهم فى المشرب والاتجاه،: قالوا لهم وقد قعدوا عن القتال: لو أن هؤلاء الذين استشهدوا فى أحد أطاعونا وقعدوا معنا فى المدينة لما أصابهم القتل، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل.
ويجوز أن تكون اللام فى قوله "لإِخوانهم" للتعليل فيكون المعنى: أنهم قالوا من أجل إخوانهم الذين استشهدوا فى غزوة أحد، لو أن هؤلاء الذين قتلوا أطاعونا ولم يخرجوا لبقوا معنا على قيد الحياة، كما هو حالنا الآن، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصحنا وخرجوا للقتال فقتلوا.
وعلى كلا التفسيرين فقولهم هذا يدل على خبث نفوسهم، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أحد.
ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويدحض قولهم، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال - تعالى - { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.
أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة: إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم فى بيوتكم، وامتناعكم عن الخروج للقتال، إذا كنتم تظنون ذلك { فَادْرَءُوا } أى ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم، والذى سيدرككم ولو كنتم فى بروج مشيدة.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة الرد عليهم بما يبطل أقوالهم عن طريق الحس والمشاهدة، وذلك ببيان أن القعود عن الجهاد لا يطيل الحياة، كما أن الخروج إلى ساحات القتال لا ينقص شيئا من الآجال، فكم من مجاهد عاد من جهاده سالما، وكم من قاعد أتاه الموت وهو فى عقر داره.
فزعم هؤلاء المنافقين بأن أولئك الذين استشهدوا فى أحد لو أطاعوهم ولم يخرجوا للقتال لما أصابهم القتل زعم باطل، وإلا فإن كانوا صادقين فى هذا الزعم فليدفعوا عن أنفسهم الموت الذى سينزل بهم حتما فى الوقت الذى يشاؤه الله، ولا شك أنهم لن يستطيعوا دفعه فثبت كذبهم وافتراؤهم.
وقوله تعالى { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } فى محل نصب بدل من قوله { ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ }.
أو فى محل رفع بدل من الضمير فى قوله { يَكْتُمُونَ } فكأنه قيل: والله أعلم بما يكتم هؤلاء الذين قالوا لإِخوانهم وقعدوا...
وقوله { وَقَعَدُواْ } حال من الضمير فى { قَالُواْ } بتقدير حرف قد أى قالوا ما قالوا والحال أنهم قد قعدوا عن القتال.
وجواب الشرط فى قوله { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو قوله { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ }.
والتقدير: إن كنتم صادقين فى زعمكم أن الذين قتلوا فى أحد لو أطاعوكم وقعدوا كما قعدتم لما أصابهم القتل، إن كنتم صادقين فى هذا الزعم فادرأوا عن أنفسكم الموت عند حلوله.
قال الآلوسى: والمراد أن ما ادعيتموه سببا للنجاة ليس بمستقيم، ولو فرض استقامته فليس بمفيد، أما الأول: فلأن أسباب النجاة كثيرة. غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية.
وأما الثانى: فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذى القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه، فإن أسباب الموت فى إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم، وأمرها أهم لديكم".
وقال ابن القيم: وكان من الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد، أن تكلم المنافقون بما فى نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا رد الله عليهم، وجوابه لهم، وعرفوا مراد النفاق، وما يؤول إليه، كيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة.
فالله الله كم من حكمة فى ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما.
وبعد هذا الحديث الكاشف عن طبيعة المنافقين وعن أحوالهم، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الشهداء وفضلهم وما أعده الله لهم من نعيم مقيم فقال - تعالى -: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ.. }.