التفاسير

< >
عرض

شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: "لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبى الذى يخرج فى آخر الزمان! فلما دخلا على النبى صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال نعم قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلانى. فقالا: أخبرنا عن الأعظم شهادة فى كتاب الله. فأنزل الله تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى: { شَهِدَ ٱللَّهُ } أى بين وأعلم كما يقول: شهد فلان عند القاضى إذا بين وأعلم لمن الحق أو على من هو قال الزجاج: "الشاهد هو الذى يعلم الشىء ويبينه، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين".
والمعنى: أخبر الله - تعالى - عباده وأعلمهم بالآيات القرآنية التى أنزلها على نبيه، وبالآيات الكونية التى لا يقدر على خلقها أحد سواه، وبغير ذلك من الأدلة القاطعة التى تشهد بوحدانيته، وأنه لا معبود بحق سواه، وأنه هو المنفرد بالألوهية لجميع الخلائق. وأن الجميع عبيده وفقراء إليه وهو الغنى عن كل ما عداه. وشهد بذلك "الملائكة" بأن اقروا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد فعبدوه حق العبادة، وأطاعوه حق الطاعة، وشهد بذلك أيضاً "أولو العلم" بأن اعترفوا له - سبحانه - بالوحدانية، وصدقوا بما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبلغوا ذلك لغيرهم.
قال الزمخشرى: شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التى لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإِخلاص وآية الكرسى وغيرهما، بشهادة الشاهد فى البيان والكشف وكذلك إقرار الملائكة وأولى العلم بذلك واحتجاجهم عليه".
وقالوا: وفى هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء، فإنه لو كان أحد أشرف العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء. وقال فى شرف العلم لنبيه - صلى الله عليه وسلم -
{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } فلو كان شىء أشرف من العلم لأمر الله نبيه أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم "إن العلماء ورثة الأنبياء" وقال: "العلماء أمناء الله على خلقه" . وهذا شرف للعلماء عظيم ومحل لهم فى الدين خطير.
والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف فى خدمة عقيدتهم، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم، وأخلصوا لله فى عبادتهم، وصدقوا فى أقوالهم وأفعالهم.
وقدم سبحانه - الملائكة على أولى العلم، لأن فيهم من هو واسطة لتوصيل العلم إلى ذويه، لأن علمهم كله ضرورى بخلاف البشر فإن علمهم منه ما ضرورى، ومنه ما هو اكتسابى.
وقوله - تعالى - { قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } بيان لكماله - سبحانه - فى أفعاله إثر بيان كماله فى ذاته. والقسط: العدل. يقال قسط ويقسط قسطاً، وأقسط إقساطاً فهو مقسط إذا عدل ومنه
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } ويطلق القسط على الجور، والفاعل قاسط، ومنه { { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } }. أى: مقيما للعدل فى تدبير أمر خلقه، وفى أحكامه. وفيما يقسم بينهم من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به وينهى عنه، وفى كل شأن من شئونه.
قال الجمل و { قَآئِمَاً } منصوب على أنه حال من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا، فتكون الحال أيضا فى حيز الشهادة، فيكون المشهود به أمرين: الوحدانية والقيام بالقسط وهذا أحسن من جعله حالا من الاسم الجليل فاعل شهد، لأن عليه يكون المشهود به الوحدانية فقط والحال ليست فى حيز الشهادة.
وقوله { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تكرير للمشهود به للتأكيد والتقرير، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضى الاعتناء بأدلته.
{ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل. أى لا إله فى هذا الوجود يستحق العبادة بحق إلا الله { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يمتنع عليه شىء أراده، وينتصر من كل أحد عاقبه أو انتقم منه { ٱلْحَكِيمُ } فى تدبيره فلا يدخله خلل.
قال ابن جرير: "وإنما عنى جل ثناؤه - بهذه الآية نفى ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عيسى من النبوة، وما نسب إليه سائر أهل الشرك: من أن له شريكا، واتخاذهم دونه أربابا، فأخبرهم الله عن نفسه، أنه الخالق كل ما سواه، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه. فبدا - جل ثناؤه - بنفسه تعظيما لنفسه، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدأوا فى أمورهم بذكره قبل ذكر غيره مؤدباً خلقه بذلك".
هذا، ومن الآثار التى وردت فى فضل هذه الآية ما رواه الإِمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ }... إلى آخر الآية. فقال صلى الله عليه وسلم:
"وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب" وقال غالب القطان: أتيت الكوفة فى تجارة لى فنزلت قريبا من الأعمش فكنت اختلف إليه، فقام فى ليلة متهجدا فمر بهذه الآية { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } فقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهى لى وديعة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ }، - قالها مراراً - فقلت. لقد سمع فيها شيئاً فسألته فى ذلك فقال: حدثنى أبو وائل بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله - تعالى - "عبدى عهد إلى وأنا أحق من وفى العهد ادخلوا عبدى الجنة".
وقوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى. وأصل الدين فى اللغة الجزاء والحساب. يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه، ومنه قولهم: كما تدين تدان أى، كما تفعل تجازى، وفى الحديث
"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" والمراد به هنا ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات، فيكون بمعنى الملة والشرع.
أى: إن الشريعة المرضية عند الله - تعالى - هى الإِسلام، والإِسلام فى اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال: أسلم أى انقاد واستسلم. وأسلم أمره لله سلمه إليه والمراد به هنا - كما قال ابن جرير: "شهادة أن لا إله إلا الله، والإِقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذى شرعه لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإِحسان إلا به" وهو الدين الحنيف الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن كثير: وقوله - تعالى - { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } إخبار منه تعالى - بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإِسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به فى كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذى سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقى الله تعالى - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال - تعالى -
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ } الآية. وقال فى هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده فى الإِسلام { { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُِ } }. وقوله: { عِندَ ٱللَّهِ } ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل، أى الذى شرع عند الله الإِسلام. ويصح أن يكون صفة للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإِسلام. وفى إضافة الدين إلى الله - تعالى - بقوله { عِندَ ٱللَّهِ } وباعتبار الإِسلام وحده، هو دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، إشعار بفضل الإِسلام، لأن له ذلك الشرف الإِضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه، فهو دين الله الذى شرعه لخلقه.
ثم بين - سبحانه - أن اختلاف أهل الكتاب فى شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغى والحسد وطلب الدنيا فقال - تعالى - { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ }.
أى: وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذى لا باطل معه، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سبه البغى والحسد والظلم فيما بينهم.
وفى التعبير عنهم بأنهم { أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } زيادة تقبيح لهم؛ فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا.
وقوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } زيادة أخرى فى تقبيح أفعالهم، فإن الاختلاف بعد مجىء العلم أزيد فى القبح والعناد.
والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات، أى وما اختلفوا فى حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق، والعلم بالحق وحده لا يكفى فى الإِيمان به، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول.
{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فهم قد اختلفوا فى الحق مع عملهم بأنه حق، لأن العلم كالمطر، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية، والقلوب الواعية، والأفئدة المستقيمة.
وقوله { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول لأجله، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغى لا لغيره قال القرطبي: "وفى الكلام تقديم وتأخير، والمعنى، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم".
ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد فقال: { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }. أى: ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته - سبحانه - فإن الله محص عليه أعماله فى الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه فى الآخرة.
فقوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } قائم مقام جواب الشرط وعلة له، أى: ومن يكفر بآيات الله فإنه - سبحانه - محاسبه ومعاقبه والله سريع الحساب.
وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو - سبحانه - لا يحتاج إلى فحص وبحث، لأنه لا تخفى عليه خافية.
ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد به على أهل الكتاب إذا ما جادلوه أو خاصموه ليحسم الأمر معهم ومع غيرهم من المشركين وليمضى فى طريقه الواضح المستقيم فقال - تعالى - { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ }.
وقوله { حَآجُّوكَ } من المحاجة وهى أن يتبادل المتجادلان الحجة، بأن يقدم كل واحد حجته ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعم أنه الحق الذى لا شك فيه.
والمعنى: فإن جادلك - يا محمد - أهل الكتاب ومن لف لفهم بالأقاويل المزورة والمغالطات الباطلة بعد أن قامت الحجج على صدقك. فلا تسر معهم فى لجاجتهم، ولا تلتفت إلى أكاذيبهم، بل قل لهم { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } أى أخلصت عبادتى لله وحده، وأطعته وانقدت له، وكذلك من اتبعنى وآمن بى قد أسلم وجهه له وأخلص له العبادة.
والمراد بالوجه هنا الذات، وعبر بالوجه عن سائر الذات لأنه أشرف أعضاء الشخص، ولأنه هو الذى تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم فالتعبير به عن الجسم كله تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل.
وَ{ مَنِ } فى قوله { وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } فى محل رفع عطفا على الضمير المتصل فى { أَسْلَمْتُ } أى أسلمت أنا ومن اتبعنى، وجاء العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد لوجود الفاصل بينهما.
وقوله { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ } عطف على الجملة الشرطية، والمراد بالأميين الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب.
والاستفهام فى قوله { أَأَسْلَمْتُمْ } للحض على أن يسلموا وجوههم لله، ويتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم كما اتبعه المسلمون.
والمعنى: فإن جادلوك فى الدين - يا محمد - بعد أن تبين لكل عاقل صدقك، فقل لهؤلاء المعاندين إني أسلمت وجهى لله وكذلك أتباعى أسلموا وجوههم لله، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلموا تسلموا فقد تبين لكن أنى على حق، ومن شأن العاقل أنه إذا تبين له الحق أن يدخل فيه وأن يترك العناد والمكابرة.
قال صاحب الكشاف: وقوله { أَأَسْلَمْتُمْ } يعنى أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإِسلام ويقتضى حصوله لا محالة فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان طريقا إلا سلكته: هل فهمتها لا أم لك. ومنه قوله - تعالى -
{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفى هذا الاستفهام استقصار - أى عد المخاطب قاصرا - وتعيير بالمعاندة وقلة الإِنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف فى إذعانه للحق.
ثم بين - سبحانه - ما يترتب على إسلامهم من نتائج، وما يترتب على إعراضهم من شرور تعود عليهم فقال: { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ }.
أى: فإن أسلموا وجوههم لله وصدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد اهتدوا إلى طريق الحق، لأن هذا الإِسلام هو الدين الذى ارتضاه الله للناس وإن أعرضوا عن هذا الطريق المستقيم، فإن إعراضهم لن يضرك - أيها الرسول الكريم - لأن الذى عليك إنما هو تبليغ الناس ما أمرك الله بتبليغه إياهم. وهو - سبحانه - بصير بخلقه لا تخفى عليه خافية من أقوالهم أو أفعالهم، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.
وعبر بالماضى فى قوله { فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } مبالغة فى الإِخبار بوقوع الهدى لهم وقوله { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } قائم مقام جواب الشرط أى وإن تولوا لا يضرك توليهم شيئاً إذا ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه.
وقوله { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } تذييل فيه عزاء للنبى صلى الله عليه وسلم عن كفرهم، وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم، لأنه - سبحانه - عليم بنفوس الناس جميعا وسيجازى كل إنسان بما يستحقه، وفيه كذلك وعد للمؤمنين بحسن العاقبة، وجزيل الثواب.
قال ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة فى غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله - تعالى -
{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وقال - تعالى - { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } وفى الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بنى آدم من عربهم وعجمهم. كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك، فعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أهل النار" .
وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت إلى الأحمر والأسود" . وقال: "كان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وعن أنس - رضى الله عنه - أن غلاما يهوديا كان يضع للنبى صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض. فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "يا فلان قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبى صلى الله عليه وسلم القول. فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه أطع أبا القاسم. فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فخرج النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذى أخرجه بى من النار" رواه البخاري فى الصحيح. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد بينت للناس فى كل زمان ومكان أن دين الإِسلام هو الدين الحق الذى ارتضاه الله لعباده وشهد بذلك خالق هذا الكون - عز وجل - وكفى بشهادته شهادة كما شهد بذلك الملائكة المقربون والعلماء المخلصون. كما بينت أن كثيراً من الذين أوتوا الكتاب يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم يكتمونها ظلما وبغيا، كما بينت - أيضاً - أن الذين يدخلون فى هذا الدين يكونون بدخولهم قد اهتدوا إلى الطريق القويم، وأن الذين يعرضون عنه سيعاقبون بما يستحقونه بسبب هذا الإِعراض عن الحق المبين.
ثم انتقل القرآن إلى سرد بعض الرذائل التى عرف بها اليهود وعرف بها أسلافهم، وبين سوء مصيرهم ومصير كل من يفعل فعلهم فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ.. }.