التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٤
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٥
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أورد بعض المفسرين روايات فى سبب نزول هذه الآيات:
منها، ما رواه البخارى عن عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم: "كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما - أى نجعل على وجوههما الفحم تنكيلا بهما، ونضربهما. فقال: ألا تجدون فى التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم. فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مدراسها - الذى يدرسها منهم - كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن الرجم. فقال ما هذه؟ - أى أن عبد الله بن سلام رفع يد القارىء عن آية الرجم وقال له ما هذه - فلما رأى اليهود ذلك قالوا: هى آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد".
وقال ابن عباس:
"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود - أى دخل عليهم فى المكان الذى يتدارسون فيه علومهم - فدعاهم إلى الله. فقال له بعضهم: على أى دين أنت يا محمد؟ فقال: إنى على ملة إبراهيم ودينه. فقالوا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة هى بيننا وبينكم؛ فأبوا عليه فأنزل الله هذه الآيات" .
وذكر النقاش أنها نزلت لأن جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "هلموا إلى التوراة ففيها صفتى فأبوا" .
قال ابن جرير ما ملخصه: وأولى الأقوال فى تأويل ذلك عندى بالصواب أن يقال: إن الله - تعالى - قد أخبر عن طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم دعوا إلى التوراة للتحاكم إليها فى بعض ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا. ويجوز أن يكون هذا التنازع فى أمر نبوته، أو فى أمر إبراهيم ودينه، أو فى حد من الحدود فإن كل ذلك مما نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكأن ابن جرير -رحمه الله - يريد أن يقول: إن الآيات الكريمة تتسع لكل ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دعاهم إلى أن يحكم التوراة بينه وبينهم فى شأن هذا التنازع أبوا وأعرضوا وهو رأى حسن.
والاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من شأنهم ومن سوء صنيعهم حيث دعوا إلى كتابهم ليحكم بينهم فامتنعوا عن ذلك لأنهم كانوا - كما يقول الآلوسى - "إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة" ثم قال:
و "من" إما للتبعيض وإما للبيان، ومعنى "نصيب" هو الكتاب أو نصيبا منه، لأن الوصول إلى كنه كلامه - سبحانه - متعذر "فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم. وإن جعل تبعيضاً كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام فى "الكتاب" للعهد والمراد به التوارة".
والمعنى: قد علمت أيها العاقل حال أولئك الأحبار من اليهود الذين اعطوا قسطا من معرفة كتابهم والذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى التوراة التى هى كتابهم فيما حدث بينهم وبينه من نزاع فأبوا أن يستجيبوا لدعوته، وأعرضوا عنها كما هو شأنهم ودأبهم فى الإِعراض عن الحق والصواب.
وعرف المتحدث عنهم - وهم أحبار اليهود - بطريق الموصولية، لأن فى الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم، لأن كونهم على علم من الكتاب قليل أو كثير من شأنه أن يصدهم عما أخبر به عنهم لو كانوا يعقلون.
وجملة { يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } مستأنفة مبينة لمحل التعجب، أو حال من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب.
والمراد بكتاب الله: التوراة، لأن سبب النزول يؤيد ذلك، لأن التعجيب من حالهم يكون أشد إذا كان إعراضهم إنما هو عن كتابهم. وقيل المراد به القرآن.
وقوله { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } معطوف على قوله { يُدْعَوْنَ } وجاء العطف بثم للإِشعار بالفارق الشاسع بين ما قاموا به من إعراض عن الحق، وبين كان يجب عليهم أن يفعلوه. فإن علمهم بالكتاب كان يقتضى أن يتبعوه وأن يعملوا بأحكامه، ولكنهم أبوا ذلك لفساد نفوسهم.
وقوله { مِّنْهُمْ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لفريق.
وإنما قال { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ليخرج القلة التى أسلمت من علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا من إنصاف القرآن فى أحكامه. واحتراسه فى سوق الحقائق، فهو لا يلقى الأحكام على الجميع جزافا، وإنما يحدد هذه الأحكام بحيث يدين المتهم، ويبرىء ساحة البرىء.
وقوله { وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } حال من فريق، أى ثم يتولى فريق منهم عن سماع الحق، والانقياد لأحكامه، وينفر منها نفورا شديداً، والحال أنهم قوم ديدنهم الإِعراض والانصراف عن الحق.
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى صرفتهم عن الحق فقال: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ }.
واسم الإِشارة { ذٰلِكَ } يعود إلى المذكور من توليهم وإعراضهم عن مجلس النبى صلى الله عليه وسلم وعن سماعهم للحق الذى جاء به.
والمس: اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإِحساس والإِصابة، والمراد من النار: نار الآخرة.
والمراد من المعدودات: المحصورات القليلات يقال شىء معدود: أى قليل وشىء غير معدود أى كثير. فهم يزعمون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام، وقد تكون أربعين يوما، وبعدها يخرجون إلى الجنة.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما فى النار، وإنما هى سبعة آيام. وفى رواية عنه أنه قال فى قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التى أصبنا فيها العجل أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انقطع عنا العذاب والقسم.
أى ذلك التولى والإِعراض عن الحق الذى صدر عن كثير من أحبار اليهود وعوامهم سببه أنهم سهلوا على أنفسهم أمر العقاب، وتوهموا أنهم لن يعذبوا عذابا طويلا، بل النار ستمسهم أياما قليلة ثم بعد ذلك يخرجون منها، لأنهم أبناء الله واحباؤه، ولأن آباءهم سيشفعون لهم فى زعمهم.
ثم قال - تعالى - { وَغَرَّهُمْ في دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
وقوله { وَغَرَّهُمْ } من الغرور وهو كل ما يغر الإِنسان ويخدعه من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك من الأشياء التى تغر الإِنسان وتخدعه وتجعله غافلا عن اتباع الحق.
والمعنى: أنهم سهلوا على أنفسهم الخطوب، ولم يبالوا بالمعاصي والذنوب، وأنهم طمعوا فى غير مطمع، وأصاب موضع المغرة والغفلة منهم فى دينهم ما كانوا يفترونه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. والغرور أكبر شىء يبعد الإِنسان عن حسن الاستعداد لما يجب عليه نحو دينه ودنياه.
ثم حكى القرآن ما سيكون عليه حالهم من عذاب وحسرة بأسلوب مؤثر فقال: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
فالاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة.
وكيف فى موضع نصب على الحال، والعامل فيه محذوف أى فكيف تكون حالهم، أو كيف يصنعون. ويجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أى: فكيف حالهم.
قال الفخر الرازى: أما قوله { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } فالمعنى أنه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجىء يوم يزول فيه ذلك الجهل، وينكشف فيه ذلك الغرور فقال: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } وفى الكلام حذف والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم، ويحذف الحال كثيراً مع كيف، لدلالتها عليه تقول كنت أكرمه وهو لم يزرنى، فكيف لو زارنى، أى كيف حاله إذا زارنى. وأعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة فى قول القائل: "لو زارنى، وكل نوع من أنواع العذاب فى هذه الآية".
والمعنى: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب فى مجيئه وحصوله، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التى أدعوها فى الدنيا { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } شيئاً، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله، لا شك أنهم فى هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم، وبفساد تصورهم، وأنهم سيقعون فى العذاب الأليم الذى لا حيلة لهم فى دفعه، ولا مخلص فهم من ذوقه
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال الزمخشرى: "روى أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود، فيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ثم يأمر بهم إلى النار". وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد وبخت أحبار اليهود الذين يعرضون عن الحق توبيخاً شديداً، وأبطلت أكاذيبهم وغرورهم، وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم، وصورت حالهم يوم القيامة تصويراً مؤثراً هائلا تهتز له القلوب، وترتجف منه الأفئدة ويحمل العقلاء على التزود من التقوى والعمل الصالح حتى يفوزوا برضا الله.
من توجيهات القرآن الكريم: بعد أن تحدثت سورة آل عمران، عن المعرضين عن الحق. أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر كل مؤمن أن يتوجه إليه بالضراعة. فقال تعالى: { قُلِ ٱللَّهُمَّ... }.