التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٣٣
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٣٤
إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٥
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٣٦
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله { ٱصْطَفَىٰ } من الاصطفاء وهو الاختيار والانتقاء وطلب الصفوة من كل شىء.
وقوله { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } الآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل إلا أنه خص بالإِضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة. يقال آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا... ويضاف إلى الأشرف الأفضل فيقال آل الله وآل السلطان ولا يقال آل الحجام.... ويستعمل الآل فيمن يختص بالإِنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال - تعالى - { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ }.
والمعنى: إن الله - تعالى - قد اختار واصطفى { ءَادَمَ } أبا البشر، بأن جعله خليفة فى الأرض، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته.
واصطفى { نُوحاً } لأنه - كما يقول الآلوسى - آدم الأصغر، والأب الثانى للبشرية، وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله - سبحانه -
{ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } واصطفى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أى عشيرته وذوى قرباه وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما.
واصطفى { آلَ عِمْرَانَ } إذ جعل فيهم عيسى - عليه السلام - الذى آتاه الله البينات، وأيده بروح القدس.
والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى - عليه سلام - فهو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا.... وينتهى نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام -.
وإن فى ذلك التسلسل دليل على أن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن يجعل فى الإِنسانية من يهديها إلى الصراط المستقيم فقد ابتدأت الهداية بآدم أبى البشر كما قال - تعالى -:
{ ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } ثم جاء من بعده بقرون لا يعلمها إلا الله نوح - عليه السلام - فمكث يدعو الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق "ألف سنة إلا خمسين عاماً" ثم جاء من بعد ذلك إبراهيم - عليه السلام - فدعا الناس إلى عبادة الله وحده، فكان هو وآله صفوة الخلق وفيهم النبوة فمن إسماعيل بن إبراهيم كان محمد صلى الله عليه وسلم الذى ختمت به الرسالات السماوية.
ومن إسحاق وبنيه كان عدد من الأنبياء كداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون... ومن فرع إسحاق كان آل عمران وهم ذريته وأقاربه كزكريا ويحيى وعيسى الذى كان آخر نبى من هذا الفرع.
وفى التعبير بالاصطفاء تنبيه إلى أن آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران صفوة الخلق، إذ أن الرسل والأنبياء جميعا من نسلهم.
وقوله { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أى على عالمى زمانهم. أى أهل زمان كل واحد منهم.
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بتسلسل هذه الصفوة الكريمة بعضها من بعض فقال { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } وأصل الذرية - كما يقول القرطبى - فعلية من الذر، لأن الله - تعالى - أخرج الخلق من صلب آدم كالذر حين أشهدهم على أنفسهم - وقيل هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا خلقهم، ومنه الذرية وهى نسل الثقلين".
والمعنى: أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم من نسل بعض، فهم متصلو النسب، فنوح من ذرية آدم، وآل إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، فهم جميعاً سلسلة متصلة الحلقات فى النسب، والخصال الحميدة.
وقوله { ذُرِّيَّةً } منصوب على الحال من آل إبراهيم وآل عمران. ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى هو - سبحانه - سميع لأقوال عباده فى شأن هؤلاء المصطفين الأخيار وفى شأن غيرهم عليم بأحوال خلقه علما تاما بحيث لا تخفى عليه خافية تصدر عنهم.
والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ومؤكد له.
ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عندما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى: { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فى بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي } والظرف "إذا" فى محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير: أذكر لهم وقت قولها رب إنى نذرت... ألخ. وقيل هو متعلق بقوله { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى أنه - سبحانه - يعلم علم ما يسمع فى الوقت الذى قالت فيه امرأة عمران ذلك القول.
وامرأة عمران هذه هى "حنة" بنت فاقوذا بن قنبل وهى أم مريم وجدة عيسى عليه السلام وعمران هذا هو زوجها، وهو أبو مريم.
وقوله { نَذَرْتُ } من النذر وهو التزام التقرب إلى الله - تعالى - بأمر من جنس العبادات التى شرعها - سبحانه - لعباده ليتقربوا بها إليه.
وقوله { مُحَرَّراً } أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس. يقال: حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتابة إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئاً من وجوه الخطأ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان.
والمعنى: اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول: يا رب إنى نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذى فى بطنى مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص، وتلك النية الصادقة، { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } لقولى ولأقوال خلقك { ٱلْعَلِيمُ } بنيتى وبنوايا سائر عبادك.
فأنت ترى فى هذا الدعاء الخاشع الذى حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإِخلاص، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذى فى بطنها، ملتمسة منه - سبحانه - أن يقبل نذرها الذى وهبته لخدمة بيته، واللام فى قوله "لك" للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك.
وقوله { مُحَرَّراً } حال من "ما" والعامل فيه "نذرت".
قال بعضهم: "وكان هذا النذر يلزم فى شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل فى الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء، وإن اختار الإِقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج. ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا الغلمان، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى". وجملة { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } تعليلية لاستدعاء القبول، من حيث أن علمه - سبحانه - بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما.
ثم حكى - سبحانه - ما قالته بعد أن وضعت ما فى بطنها فقال - تعالى -: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ }.
قالوا: إن هذا خبر لا يقصد به الإِخبار، بل المقصود منه إظهار التحسر والتحزن والاعتذار، فقد كانت امرأة عمران تتوقع أن يكون ما فى بطنها ذكرا، لأنه هو الذى يصلح لخدمة بيت الله والانقطاع للعبادة فيه، لكنها حين وضعت حملها ووجدته أنثى، قالت على سبيل الاعتذار عن الوفاء بنذرها: رب إنى وضعتها أنثى، والأنثى لا تصلح للمهمة التى نذرت ما فى بطنى لها وهى خدمة بيتك المقدس، وأنت يا إلهى القدير على كل شىء فبقدرتك أن تخلق الذكر وبقدرتك أن تخلق الأنثى.
والضمير فى قوله { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } يعود لما فى بطنها. وتأنيث باعتبار حاله فى الواقع ونفس الأمر وهو أنه أنثى.
وقوله { أُنْثَىٰ } منصوب على الحال من الضمير فى وضعتها، وهى حال مؤكدة لأن كونها أنثى مفهوم من تأنيث الضمير فجاءت أنثى مؤكدة.
وقوله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } جملة معترضة سيقت للايماء إلى تعظيم المولود الذى وضعته وتفخيم شأنه، وللإِشعار بأن الأنثى ستصلح لما يصلح له الذكور من خدمة بيته. أى: والله - تعالى - أعلم منها ومن غيرها بما وضعته، لأنه هو الذى خلق هذا المولود وجعله أنثى، وهو العليم بما سيصير إليه أمر هذه الأنثى من فضل، إذ منها سيكون عيسى - عليه السلام - وسيجعلها - سبحانه - آية ظاهرة دالة على كمال قدرته، ونفوذ إرادته.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } بضم التاء وعلى هذه القراءة لا تكون الجملة معترضة وإنما هى من تتمة ما قالته، ويكون الكلام التفات من الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو لفظ الجلالة إذ لو جرت على مقتضى قولها، { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } لقالت: وأنت أعلم بما وضعت.
ويكون قولها هذا من تتمة الاعتذار إلى الله - تعالى - حيث وضعت مولودا لا يصلح لما نذرته - فى عرف قومها وتسلية لنفسها، أى ولعل لله سرا وحكمة لا يعلمها أحد سواه فى جعل هذا المولود أنثى. أو لعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر.
وقوله - تعالى - { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } يحتمل أنه من كلامه - سبحانه - وهو الظاهر - فتكون الجملة معترضة كسابقتها، ويكون: وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التى ولدتها، بل هذه الأنثى وإن كانت أفضل منه فى العبادة والمكانة إلا أنها لا تصلح عندهم لسدانة بيت الله تعالى، بسبب حرمة اختلاطها بالرجال وما يعتريها من حيض وغير ذلك مما يعترى النساء.
ويحتمل أنه من كلامها الذى حكاه الله تعالى عنها فلا تكون الجملة معترضة ويكون المعنى: وليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التى وضعتها، بل هو خير منها لأنه هو الذى يصلح لسدانة بيتك وخدمته، ومع هذا فأنا فى كلتا الحالتين راضية بقضائك مستسلمة لإِرادتك.
ثم حكى - سبحانك - أيضاً بعض ما قالته بعد ولادتها فقال { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ }.
قالوا: إن كلمة مريم معناها فى لغتهم العابدة، فأرادت بهذه التسمية التقرب إلى الله والالتماس منه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لا سمها.
ومعنى { أُعِيذُهَا بِكَ } أمنعها وأجيرها بحفظك. مأخوذ من العوذ، وهو أن تلتجىء إلى غيرك وتتعلق به. يقال: عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه العوذة وهى التميمة والرقية.
والشيطان فى لغة العرب: كل متمرد من الجن والإِنس والدواب وكل شىء. وهو مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن كل خير.
والرجيم : فعيل بمعنى مفعول. أى أنه مرجوم مطرود من رحمة الله ومن كل خير. وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والشرور.
والمعنى: وإنى يا خالقى مع حبى لأن يكون المولود ذكراً لتتهيأ له خدمة بيتك فقد رضيت بما وهبت لى، وإنى قد سمَيت هذه الأثنى التى أعطيتنى إياها مرم. أى العابدة الخادمة لك، وإنى أحصنها وأجيرها بكفالتك لها ولذريتها من الشيطان الرجيم الذى يزين للناس الشرور والمساوىء.
قال القرطبى: وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه" .
ثم قال أبو هريرة: "اقرءوا إن شئتم: وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم".
قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله - تعالى - استجاب دعاء أم مريم... ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإِفساد والإِغواء، ومع ذلك عصمهم الله مما يرومه الشيطان كما قال تعالى:
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وقوله: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } معطوف على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } وما بينهما اعتراض. وهذا على قراءة الجمهور التي جاءت بتسكين التاء فى { وَضَعَتْ } فى قوله - تعالى - { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }.
وأما على قراءة غير الجمهور التى جاءت بضم التاء فى قوله: { وَضَعَتْ } فيكون أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } ويكون هذا القول وما عطف عليه فى محل نصب بالقول، والتقدير: قالت: إنى وضعتها أنثى، وقالت: الله أعلم بما وضعت وقالت: ليس الذكر كالأنثى، وقالت: إنى سميتها مريم.
وأتى فى قوله: { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } بخبر إن فعلا مضارعا للدلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها، بخلاف وضعتها، وسميتها، حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما.
وقوله: { وَذُرِّيَّتَهَا } معطوف على الضمير المنصوب فى أعيذها.
وفى التنصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها من الشيطان الرجيم، رمز إلى طلب بقائها على قيد الحياة حتى تكبر وتكون منها الذرية الصالحة.
تلك هى بعض الكلمات الطيبات والدعوات الخاشعات، التى توجهت بها امرأة عمران إلى ربها عندما أحست بالحمل فى بطنها وعندما وضعت حملها حكاها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر، فماذا كانت نتيجتها؟
كانت نتيجتها أن أجاب الله دعاءها وقبل تضرعها، وقد حكى - سبحانه - ذلك بقوله: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً }.
والفاء فى قوله: { فَتَقَبَّلَهَا } تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإِجابة، والضمير يعود إلى مريم. والتقبل - كما يقول الراغب - قبول الشىء على وجه يقتضى ثوابا كالهداية ونحوها.
وإنما قال - سبحانه - { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ } ولم يقل بتقبل: للجمع بين الأمرين: التقبل الذى هو الترقى فى القبول، والقبول الذى يقتضى الرضا والإِثابة".
والمعنى: أن الله - تعالى - تقبل مريم قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها، فرضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التى قالت { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فى بَطْنِي مُحَرَّراً }.
{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أى رباها تربية حسنة، وصانها من كل سوء، فكان حالها كحال النبات الذى ينمو فى الأرض الصالحة حتى يؤتى ثماره الطيبة.
وهكذا قيض الله - تعالى - لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية، فقد قبلها لخدمة بيته مع أنها أنثى، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خلقى أو خلقى، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب. فقد قال - تعالى - { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
قوله { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أى ضمها إلى زكريا، لأن الكفالة فى أصل معناها الضم. أى ضمها الله - تعالى - إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها.
وقرئ { وَكَفَّلَهَا } بتخفيف الفاء. وبرفع { زَكَرِيَّا } على أنه فاعل. وعلى هذه القراءة تنطق كلمة زكريا بالمد قبل الهمزة فقط أى "زكرياء".
أما على القراءة الأولى فيجوز فى زكريا المد والقصر.
وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهى نسبة إلى سليمان بن داود - عليهما السلام - وكان متزوجا بخالة مريم، وقيل كان متزوجا بأختها.
وكانت كفالته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا فى كفالتها من سدنة بيت المقدس، يدل على ذلك قوله - تعالى -
{ ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } قال صاحب الكشاف: "روى أن "حنة" حين ولدت مريم، لفتها فى خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وهم فى بيت المقدس، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم".
فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندى خالتها فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها".
وقوله: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } بيان لكفالة الله - تعالى - لرزقها ورضاه عنها، ورعايته لها.
والمحراب موضع العالى الشريف والمراد به الغرفة التى تتخذها مريم مكانا لعبادتها فى المسجد. سمى بذلك لأنه مكان محاربة الشيطان والهوى.
قال الآلوسى ما ملخصه: "والمحراب - على ما روى عن ابن عباس - غرقة بنيت لها فى بيت المقدس، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم. وقيل المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. وقيل المراد به أشرف مواضع المسجد ومقدمها وهو مقام الإِمام من المسجد أصله مفعال: صيغة مبالغة - كمطعان - فسمى به المكان، لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه و "كلما" ظرف على أن "ما" مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها.
والمعنى: كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه "وجد عندها رزقا" أى أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو وجد ذلك كائنا بحضرتها. أخرجه بن جرير عن الربيع قال: "أنه كان لا يدخل أحد سوى زكريا فكان يجد عندها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف" والتنوين فى { رِزْقاً } للتعظيم...
وهذا دليل على قدرة الله - سبحانه - على كل شىء، وعلى رعايته لمريم، فقد رزقها - سبحانه - من حين لا تحتسب، ودليل على وقوع الكرامة أوليائه - تعالى -.
ولقد كان وجود هذا الرزق عند مريم دون أن يعرف زكريا - عليه السلام - مصدره مع أنه لا يدخل عليها أحد سواه كان ذلك محل عجبه، لذا حكى القرآن عنه: { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } أى من أين لك هذا الرزق العظيم الذى لا أعرف سببه ومصدره. و { أَنَّىٰ } هنا بمعنى من أين.
والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذا الرزق؟ فكان الجواب: قال يا مريم من أين لك هذا.
ولقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها، وصفاء نفسها. فقد أجابته بقولها - كما حكى القرآن عنها - { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أى: قالت له إن هذا الزرق من عند الله - تعالى - فهو الذى رزقنى إياه وسافه إلى بقدرته النافذة.
وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } جملة تعليلية. أى: إن الله تعالى، يرزق من يشاء أن يرزقه رزقا واسعا عظيما لا يحده حد، ولا تجرى عليه الأعداد التى تنتهى، فهو - سبحانه - لا يحاسبه محاسب، ولا تنقص خزائنه من أى عطاء مهما كثر وعظم.
وهذه الجملة الكريمة يحتمل أنها من كلام الله - تعالى - فتكون مستأنفة، ويحتمل أنها من كلامها الذى حكاه القرآن عنها، فتكون تعليلية فى محل نصب داخلة تحت القول.
هذا وفى تلك الآيات التى حكاها القرآن عن مريم وأمها نرى كيف يعمل الإِيمان عمله فى القلوب فينقيها ويصفيها ويحررها من رق العبودية لغير الله الواحد القهار وكيف أن الله تعالى، يتقبل دعاء عباده الصالحين، وينبتهم نباتا حسنا، ويرعاهم برعايته، يزرقهم من حيث لا يحتسبون.
ولقد كان ما رآه زكريا - عليه السلام - من أحوال مريم من الأسباب التى جعلته - وهو الشيخ الهرم - يتضرع إلى الله أن يرزقه الذرية الصالحة، وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال - تعالى -: { هُنَالِكَ دَعَا.... }