التفاسير

< >
عرض

الۤمۤ
١
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ
٢
نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٣
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ
٥
هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة آل عمران ببعض حروف التهجى وهو قوله - تعالى -: { الۤمۤ }..
ويبلغ عدد السور القرآنية التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.
وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود من حروف التهجى التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ويمكن إجمال اختلافهم فى رأيين رئيسيين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى، وسفيان الثورى وغيرهما من العلماء، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال: "إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فواتح السور" وروى عن ابن عباس أنه قال: "عجزت العلماء عن إدراكها".
وعن على بن أبى طالب أنه قال: "إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى" وفى رواية أخرى للشعبى أنه قال: "سر الله فلا تطلبوه".
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس؛ لأنه من المتشابه فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثله كمثل التكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد بها، وكذلك بعض الصحابة المقربين، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور. وهناك مناقشات للعلماء حول هذا الرأى لا مجال لذكرها هنا.
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم. وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه. وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها:
1- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم
"من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح" . وبدليل اشتهار بعض السورة بالتسمية بها، كسورة "ص" وسورة "يس" وسورة "ق".. الخ.
ولا يخلو هذا القول من ضعف لأنه لا يلزم من التسمية ببعضها أن تكون جميع الحروف المقطعة أسماء للسور التى بدئت بها، ولأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، فلو كانت أسماء للسور لم تتكرر لمعان مختلفة؛ لأن الغرض من التسمية رفع الاشتباه.
2- وقيل: إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
3- وقيل: إنها حروف مقطعة بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته، فمثلا: { الۤمۤ } أصلها أنا الله أعلم.
4- وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال، والتى أوصلها السيوطى فى كتابه "الإِتقان" إلى أكثر من عشرين قولا.
5- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك.
ومما يشهد لصحة هذا الرأى: أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تتحدث عن الكتاب المنزل، وعن كونه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فى أغلب المواضع.
وأنت ترى هذه الآيات كثيرا ما تتصدر صراحة باسم الإِشارة الذى يعود إلى القرآن كما فى قوله - تعالى -: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أو ضمنا كما فى قوله - تعالى -:{ الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } وأيضا فإن هذه السور التى افتتحت بالحروف المقطعة إذا ما تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات صحة الرسالة المحمدية عن طريق هذا الكتاب الذى جعله الله - تعالى - معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه خلاصة موجزة لآراء العلماء فى المراد بالحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع إلى ما كتبه العلماء فى هذا الموضوع.
ثم وصف - سبحانه - ذاته بما يليق به من جلال وكمال فقال: { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }.
ولفظ الجلالة { ٱللَّهُ } يقول بعض العلماء: إن أصله إله، دخلت عليه أداة التعريف "ال" وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله.
قال القرطبي: قوله { ٱللَّهُ } هذا الاسم أكبر أسمائه - تعالى - وأجمعها حتى قال بعضهم: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع، فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى، لا إله إلا هو سبحانه -.
ولفظ "إله" قالوا: إنه من أله أى عبد، فالإِله على هذا المعنى هو المعبود وقيل هو أله أى تحير.. وذلك لأن العبد إذا تفكر فى صفاته - تعالى - تحير فيها، ولذا قيل: تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله.
و{ ٱلْحَيُّ } أى: المتصف بالحياة التى لا بدء ولا فناء لها.
و{ ٱلْقَيُّومُ } الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم، والمعطى لهم ما به قوام حياتهم، وهو مبالغة فى القيام وأصله قيووم - بوزن فيعول - من قام بالأمر إذا حفظه ودبره.
والمعنى: الله - تعالى - هو الإِله الحق المتفرد بالألوهية التى لا يشاركه فيها سواه. وهو المعبود الحق وكل معبود سواه فهو باطل، وهو ذو الحياة الكاملة. وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياطتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم.
قال الآلوسى: ولفظ الجلالة "الله" مبتدأ وما بعده خبر. والجملة مستأنفة، أى: هو المستحق للعبودية لا غيره. و{ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف أى: هو الحى القيوم.. وأياً ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق العبودية به - سبحانه - وقد أخرج الطبرانى وابن مزدويه من حديث أبى أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم فى ثلاث سور، فى سورة البقرة، وآل عمران، وطه.
وقال أبو أمامة: فالتمستها فوجدت فى البقرة
{ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } }. وفى آل عمران { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } وفى طه { { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } }. وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده المستحق للعبودية، أتبع ذلك ببيان بعض مظاهر فضله ورحمته فقال: { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } والكتاب - كما يقول الراغب - فى الأصل مصدر، ثم سمى المكتوب فيه كتاباً. والكتاب فى الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه. والكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفى التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط.
والمراد بالكتاب المنزل: القرآن الكريم. وفى التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية أفراد الكتب المنزلة، فكأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمى التوراة والإِنجيل.
وعبر بنزل - بصيغة التضعيف - للإِشارة إلى أن نزول القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم كان منجما ولم يكن دفعة واحدة ومن المعروف أن القرآن قد نزل على النبى صلى الله عليه وسلم على حسب الوقائع والحوادث وغيرها فى مدة تزيد على عشرين سنة.
وقد ذكر العلماء حكما كثيرة لنزول القرآن منجما منها: تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه، ومنها: التدرج فى تربية قويمة سليمة، ومنها: مسايرة الحوادث فى تجددها وتفرقها. ومنها تيسير حفظه وتسهيل فهمه، ومنها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين ومنها: الإِجابة على أسئلة السائلين، وبيان حكم الله - تعالى - فيما يحصل من قضايا، ولفت أنظار المخطئين إلى ما وقعوا فيه من أخطاء، وكشف حال الكافرين والمنافقين. منها: الإِرشاد إلى مصدر القرآن وأنه من عند الله - تعالى -
{ { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } }. فأنت تقرأ ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من قرآن فى مكة. وما نزل عليه فى المدينة، فترى الجميع محكم السرد. دقيق السبك، رصين الأسلوب، بليغ التراكيب، فصيح الألفاظ.. بينما ترى كلام الأدباء والبلغاء يختلف فى جودته من وقت إلى وقت "ومن موضوع إلى موضوع".
وقد بين - سبحانه - أن هذا القرآن قد نزل مقترنا بأمرين متصلا بهما:
أما أولهما فهو قوله: { بِٱلْحَقِّ }.
وأما ثانيهما فهو قوله: { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى: أن الله - عز وجل - الذى لا إله إلا هو، والذى هو الحى القيوم، هو الذى نزل عليك يا محمد هذا القرآن تنزيلا ملتبسا بالحق، ومصاحبا له، ومقترنا به، ومشتملا عليه، فكل ما فيه من أوامر، ونواه، وقصص، وأحكام، وعقائد، وآداب، وشرائع وأخبار.. حق لا يحوم حوله باطل، وصدق لا يتطرق إليه كذب.
وهو الذى جعل هذا الكتاب المنزل عليك موافقا ومؤيداً لما اشتملت عليه الكتب السابقة من الدعوة إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وإلى الوصايا والشرائع التى تسعد الناس فى كل زمان ومكان. وهذا يدل على أن الشرائع الإِلهية واحدة فى جوهرها وأصولها. قال - تعالى -:
{ { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } }.وقوله { بِٱلْحَقِّ } متعلق بمحذوف فيكون فى محل نصب على الحال من الكتاب. وقوله { مُصَدِّقاً } حال مؤكدة من الكتاب. أى نزله فى حال تصديقه الكتب.
وفائدة تقييد التنزيل بهذه الحال حث أهل الكتاب على الإِيمان بالمنزل، وتنبيههم على وجوبه؛ فإن الإِيمان بالمصدق يوجب الإِيمان بما يصدقه حتما.
قال الجمل: وقوله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }، فيه نوع مجاز؛ لأن ما بين يديه هو ما أمامه. فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره. واللام فى { لِّمَا } لتقوية العامل. نحو قوله - تعالى -:
{ { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } }. وهذه العبارة أحسن من تعبير بعضهم بالزائدة".
ثم أخبر - سبحانه - عن بعض الكتب الأخرى التى أنزلها فقال: { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ }.
والتوراة: اسم عبرانى للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على موسى - عليه السلام - ليكون شريعة له ولقومه.
قال القرطبى ما ملخصه: والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من وَرَى الزند ووَرِى لغتان إذا خرجت نارة.. وقيل مأخوذة من التورية، وهى التعريض بالشئ والكتمان لغيره، فكان أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح.
والجمهور على القول الأول لقوله - تعالى -
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } يعنى التوراة.
والإِنجيل: كلمة يونانية معناها البشارة وهى اسم للكتاب الذى أنزله الله على عيسى.
قالوا: والإِنجيل إفعيل من النجل وهو الأصل: يقال: رحم الله ناجليه أى والديه. وقال قوم: الإِنجيل مأخوذ من نجلت الشئ إذا استخرجته وأظهرته، ويقال للماء الذى يخرج من البئر: نجل وقيل: هو من النجل الذى هو سعة فى العين. ومنه طعنة نجلاء أى واسعة. وسمى الإِنجيل بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه الله - تعالى - لبنى إسرائيل على يد عيسى عليه السلام.
وهذا الكلام الذى نقلناه عن القرطبى والفخر الرازى هو قول لبعض العلماء الذين يرون أن لفظى التوراة والإِنجيل يدخلهما الاشتقاق والتصريف.
وهناك فريق آخر من العلماء يرى أن هذين اللفظين لا يدخلهما الاشتقاق والتصريف لأنهما اسمان أعجميان لهذين الكتابين الشريفين.
قال الفخر الرازى بعد أن أورد كلاما طويلا يدل على عدم ارتضائه للمذهب الذى يرى أصحابه أن هذين اللفظين يدخلهما الاشتقاق والتصريف: "فالتوراة والإِنجيل اسمان أعجميان:
أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقهما على أوزان لغة العرب، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث".
وقوله { مِن قَبْلُ } متعلق "بأنزل" و"هدى" حال من التوراة والإِنجيل، ولم يثن لأنه مصدر. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل فيه أنزل.
أى: وأنزل التوراة والإِنجيل من قبل تنزيل القرآن لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذى من جملته الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم واتباعه حين يبعث، لأنهما قد اشتملتا على البشارة به والحض على طاعته.
قالوا: فالمراد بالناس من عمل بالتوراة والإِنجيل وهم بنو إسرائيل. ويحتمل أنه عام بحيث يشمل هذه الأمة وإن لم نكن متعبدين أى مكلفين ومأمورين بشرع من قبلنا، والآن فيهما ما يفسد التوحيد وصفات البارى والبشارة بالنبى صلى الله عليه وسلم.
قال الآلوسى: وعبر فى جانب التوراة والإِنجيل بقوله "أنزل" للإِشارة إلى أنهما لم يكن لهما سوى نزول واحد، بخلاف القرآن فإن له نزولين: نزولا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزولا من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجما فى ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه نزل وأنزل..".
هذا، وليست التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم هى التوراة التى أنزلها الله على موسى، فقد بين القرآن فى أكثر من آية أن بعض أهل الكتاب قد امتدت أيديهم الأثيمة إلى التوراة فحرفوا منها ما حرفوا، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } }.وقوله: - تعالى - { { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } }.ومن الأدلة على أن التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم ليست هى التى أنزلها الله على موسى: انقطاع سندها، واشتمالها على كثير من القصص والعبارات والمتناقضات التى تتنزه الكتب السماوية عن ذكرها.
وكذلك الحال بالنسبة للإِنجيل؛ إذ ليست هذه الأناجيل التى يقرؤها المسيحيون اليوم هى الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى؛ وإنما هى مؤلفات ألفت بعد عيسى - عليه السلام - ونسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه.
أما الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى والذى وصفه الله بأنه هداية للناس فهو غير هذه الأناجيل.
و{ ٱلْفُرْقَانَ } كل ما فرق به بين الحق والباطل، والحلال والحرام. وهو مصدر فرق يفرق بين الشيئين فرقا وفرقاناً.
1- والمراد به عند أكثر المفسرين: الكتب السماوية التى سبق ذكرها وهى التوراة والإِنجيل والقرآن. أى: أنزل بهذه الكتب ما يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال. والخير والشر، وبذلك لا يكون لأحد عذر فى جحودها والكفر بها.
وأعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإِنزال، تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى.
2- وقال بعضهم المراد بالفرقان هنا القرآن. وإنما أعاده بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه، ورفعا لمكانه، ومدحا له بكونه فارقاً بين الحق والباطل، للإِشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله - تعالى - وأنه تتميم لما سبقه، وأنه كمال الشرائع كلها.
3- وقال بعضهم: المراد به جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله - تعالى - على رسله لهداية الناس وسعادتهم. وقد عبر عنها بالفرقان ليشمل هذا الوصف ما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم، إثر تخصيص مشاهيرها بالذكر.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذه الأقوال وغيرها فقال: "فإن قلت: ما المراد بالفرقان؟ قلت: جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل من كتبه، أو من هذه الكتب. أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور. أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له من كونه فارقا بين الحق والباطل".
أما الفخر الرازى فإنه لم يرتض كل هذه الأقوال، بل أتى برأى جديد فقال - ما ملخصه:
4- "والمختار عندى أن المراد من هذا الفرقان: المعجزات التى قرنها الله - تعالى - بإنزال هذه الكتب، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله، افتقروا فى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر الله على وفق دعواهم تلك المعجزات، حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب. فالمعجزة هى الفرقان. فلما ذكر الله أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإِنجيل من قبل ذلك، بين أنه - تعالى - أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذى يدل على صحتها، ويفيد بينها وبين سائر الكتب المختلفة".
والذى نراه أقرب إلى القبول أن المراد بالفرقان هنا جنس الكتب السماوية لأنها جميعها فارقة بين الحق والباطل فيندرج تحتها القرآن وغيره من الكتب السماوية.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المنحرفين عن طريق الحق، الكافرين بآيات الله، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } أى: إن الذين كفروا بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسله فيما يبلغون عنه، لهم عذاب شديد منه - سبحانه - بسبب كفرهم وجحودهم { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } أى منيع الجانب، غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وفى قوله { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } إشارة إلى القدرة التامة على العاقب، وفى قوله { ذُو ٱنْتِقَامٍ } إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب، ينزله متى شاء، وكيف شاء، بمقتضى قدرته وحكمته وإرادته، والوصف الأول صفة للذات. والثانى صفة للفعل.
ثم أخبر - سبحانه - عن شمول علمه لكل شئ فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ }.
أى أنه سبحانه - هو المطلع على كل صغير وكبير. وجليل وحقير، فى هذا الكون، لأنه هو الخالق له، والمهيمن على شئونه. وصدق - سبحانه - حيث يقول:
{ { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } }.وذكر - سبحانه - السماء والأرض، للإِشارة إلى أن علمه وسع كل شئ، وسع السماوات والأرض، وليس الإِنسان بالنسبة لهما إلا كائنا صغيرا فكيف لا يعلم - سبحانه - ما يسره هذا الانسان وما يخفيه؟
وفى تكرير حرف النهى "لا" تأكيد لنفى خفاء أى شئ عليه - سبحانه - والآية الكريمة وعيد شديد للكافرين بآياته، لأنه - سبحانه - وهو العليم بما يسرونه وما يعلنونه، سيجازيهم بمقتضى علمه بما يستحقونه.
ثم ساق - سبحانه - ما يشهد بشمول قدرته وعلمه فقال: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.
وقوله { يُصَوِّرُكُمْ } من التصوير وهو جعل الشئ على صورة لم يكن عليها. وهو مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه. أو من صاره إلى كذا بمعنى أماله وحوله.
والله - تعالى - القادر على كل شئ قد حكى لنا أطوار خلق الإِنسان فى آيات متعددة منها قوله - تعالى -
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } }.والأرحام: جمع رحم، وهو مستودع النطفة فى بطن المرأة، ومكان تربية الجنين ونموه وتكوينه بالطريقة التى يشاؤها الله، حتى يبرزه إلى الوجود بشرا سويا.
والمعنى: الله الذى لا إله إلا هو والذى هو الحى القيوم، هو الذى يصوركم فى أرحام أمهاتكم كيف يشاء، بأن جعل بعضكم طويلا وبعضكم قصيراً، وهذا أبيض وذاك أسود، وهذا ذكر وتلك أنثى، فهو وحده القادر على تصوير خلقه بتلك الصور المختلفة المتفاوتة، ومن كان شأنه كذلك. فهو المستحق للعبادة والخضوع، لا إله إلا هو { ٱلْعَزِيزُ } الذى يقهر كل شئ بقوته وقدرته { ٱلْحَكِيمُ } فى كل شئونه وتصرفاته.
وهذه الآية الكريمة فى مقام التعليل للتى قبلها، لأن قبلها بينت أن الله لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء، إذ هو العليم بما يسره الإِنسان من كفر أو إيمان أو غيرهما. وهذه الآية تفيد أنه - سبحانه - يعلم أحوال الإِنسان لا بعد استوائه بشراً سوياً، بل يعلم أحواله وهو نطفة فى الأرحام، بل إنه - سبحانه - ليعلم أحواله قبل أن يكون شيئاً مذكوراً، فهو - كما يقول القرطبى - العالم بما كان وما يكون ومالا يكون.
ومن كان ذلك شأنه فمن الواجب على الذين أوجدهم - سبحانه - فى بطون أمهاتهم، ورباهم ورعاهم وخلقهم خلقا من بعد خلق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
وقوله - تعالى - { كَيْفَ يَشَآءُ } إخبار منه - سبحانه - بأن هذا التكوين والتصوير فى الأرحام تبع لمشيئته وقدرته وليس خاضعا لقانون الأسباب والمسببات، إذ هو الفعال لما يريد. فمن شاء هدايته هداه، ومن شاء إضلاله أضله.
و{ كَيْفَ } فى موضع نصب على أنه حال، وناصبه الفعل الذى بعده وهو { يَشَآءُ } ومفعول المشيئة محذوف والتقدير: هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء تصويركم، من ذكر وأنثى، وجميل ودميم، وغير ذلك من مظاهر التفاوت والاختلاف فى الصور والأشكال والعقول والميول.
وقوله - تعالى - { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تأكيد لما قبله، من انفراده بالألوهية، وحقيقة المعبودية، بعد أن أقام الأدلة الساطعة على ذلك من كونه حيا قيوما، منزلا للكتب الهادية للناس إلى الحق عالما بكل شئ، مصوراً لخلقه وهم فى أرحام أمهاتهم كيف يشاء. وكل ذى عقل سليم يتدبر هذه الآيات الكريمة، يقبل على الإِيمان بالحق بقوة وإخلاص، ويسارع إلى العمل الصالح بقلب منيب ونية صادقة.
هذا، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سورة آل عمران من مطلعها إلى بضع وثمانين آية منها قد نزل فى وفد نصارى نجران الذين قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم فى السنة التاسعة من الهجرة، ليناقشوه فى شأن عيسى - عليه السلام - وقد رد عليهم صلى الله عليه وسلم بما يبطل أقوالهم التى تخالف الحق، وأرشدهم إلى الطريق المستقيم وهو طريق الإِسلام الذى ارتضاه الله لعباده دينا. وسنذكر قصة هذا الوفد عند تفسيرنا لآية المباهلة وهى قوله - تعالى - فى هذه السورة { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } الآية 61.
وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة الواضحة على أنه هو المستحق للعبادة، عقب ذلك ببيان أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، وبيان موقف الناس منهما فقال - تعالى -: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ... }.