التفاسير

< >
عرض

وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٤٨
وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٤٩
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٥٠
إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٥١
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فأنت ترى فى هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما عن طبيعة رسالة عيسى - عليه السلام - وعن معجزاته التى أكرمه الله - تعالى - بها.
وقوله - تعالى -: { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } معطوف على { يُبَشِّرُكِ } أى: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه... وإن الله يعلم ذلك المولود - المعبر عنه بالكلمة - الكتاب، وقرأ بعضهم ونعلمه الكتاب.. وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة معمولة لقوله محذوف من كلام الملائكة أى ويقول الله - تعالى - ونعلمه.. وتكون فى المعنى معطوفة على الحال وهى قوله "وجيها" فكأنه قال: وجيها ومعلماً.
وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون الجملة المستأنفة سيقت تطييبا لقلب مريم، وإراحة لما أهمها من خوف الملامة حين علمت أنها تلد من غير أن يمسها بشر.
ولقد حكى القرآن عنها فى سورة مريم قولها بتحسر وألم عندما جاءها المخاض
{ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } والمراد بالكتاب الكتابة والخط، فإن عيسى - عليه السلام - قد بعثه الله - تعالى - فى أمة ارتقت فيها ألوان العلم والمعرفة فأكرمه الله بأن جعله يفوق غيره فى هذه النواحى. وقيل المراد بالكتاب جنس الكتب الإِلهية.
قال الفخر الرازى: "والأقرب عندى أن يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة. ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق، لأن كمال الإِنسان فى أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة، ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية يعمله التوراة. وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة، لأن التوراة كتاب إلهى فيه أسرار عظيمة والإِنسان مالم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض فى البحث عن أسرار الكتب الإِلهية. ثم قال فى المرتبة الرابعة والإِنجيل. وإنما أخر ذكر الإِنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط، ثم تعلم علوم الحق، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذى نزل على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته فى العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو العناية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإِحاطة بالأسرار العقلية والشرعية، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية".
وبعد أن أشار - سبحانه - إلى علم الرسالة التى هيأ لها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك ببيان القوم الذين أرسل إليهم فقال - تعالى - { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أى أن الله - تعالى - سيجعل عيسى - عليه السلام - رسولا إلى بنى إسرائيل لكى يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكى يبشرهم برسول يأتى من بعده هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وخص بنى إسرائيل بالذكر مع أن رسالة عيسى كانت إليهم وإلى من علمها من الرومان: لأن بنى إسرائيل خرج عيسى من بينهم فهو منهم، ولأنهم هم الذين كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإِلهية، وكانت دعوته بينهم وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وفيه توبيخ لهم، لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء ومع ذلك فقد كفر كثير منهم بعيسى وبغيره من رسل الله، بل لم يكتفوا بالكفر وإنما آذوا أولئك الرسل الكرام وقتلوا فريقا منهم.
وقوله { وَرَسُولاً } منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على { وَيُعَلِّمُهُ } أى يعلمه ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.
وقوله { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } معمول لقوله { رَسُولاً } لما فيه من معنى النطق. كأنه قيل: ورسولا ناطقا بأنى قد جئتكم يا بنى إسرائيل بآية من ربكم.
والباء للملابسة وهى مع مدخولها فى محل الحال وقوله { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلق بمحذوف صفة لآية. والمراد بالآية هنا المعجزات التى أكرمه الله بها.
أى: أن الله - تعالى - قد علم عيسى - عليه السلام - الكتاب والحكمة والتوراة والإِنجيل وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل مخبرا إياهم بأنِّى رسول الله إليكم حال كونى ملتبسا مجيئى بالمعجزات الدالة على صدقى، وهذه المعجزات ليست من عندى وإنما هى من عند ربكم.
ثم ذكر - سبحانه - خمسة أنواع من معجزات عيسى - عليه السلام - أما المعجزة الأولى فعبر عنها بقوله: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
قال الآلوسى: "وقوله { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ }.. ألخ.. بدل من قوله { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } أو من { آيَةٍ } أو منصوب على المفعولية لمحذوف أى أعنى أنى أخلق لكم... أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أى أنى قد جئتكم بآية من ربكم هى أنى أخلق لكم. وقرأ نافع بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإِبراز على مقدار معين لا الايجاد من العدم".
والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قد حكى الله - عنه أنه قال لبنى إسرائيل: لقد أرسلنى الله إليكم لأبلغكم دعوته، ولآمركم بإخلاص العبادة له، وقد أعطانى - سبحانه - من المعجزات ما يقنعكم بصدقى فيما أبلغه عن ربى، ومن بين هذه المعجزات أنى أقدر على أن أصور لكم من الطين شيئاً صورته مثل صورة الطير، فأنفخ فى ذلك الشىء المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا حقيقا ذا حياة بإذن الله أى بأمره وإرادته.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على ثلاثة أعمال: ثنتان منهما لعيسى وهما تصوير الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه. أما الثالث فهو من صنع الله تعالى - وحده ألا وهو خلق الحياة فى هذه الصورة التى صورها عيسى ونفخ فيها. وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس فى عيسى ألوهية ولا أى معنى من معانيها. ولذا حكى الله - تعالى - عنه أنه قال: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
أى أنى ما فعلت الذى فعلته إلا بإذن الله وأمره وإرادته وتيسيره، واللام فى قوله { لَكُمْ } للتعليل أى أصور لأجل هدايتكم وتصديقكم بى.
والكاف فى قوله { كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } بمعنى مثل وهى نعت لمفعول محذوف أى أخلق شيئاً مثل هيئة الطير، والهيئة هى الصورة والكيفية.
والضمير فى قوله { فَأَنفُخُ فِيهِ } يعود إلى هذا المفعول المحذوف.
وقوله { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } متعلق بيكون، وجئ به لإِظهار العبودية، ونفى توهم أن يكون عيسى أو غيره شريكا لله فى خلق الكائنات.
وأما النوع الثانى والثالث والرابع من المعجزات فقد حكاه القرآن فى قوله - تعالى - { وَأُبْرِىءُ } أى أشفى، يقال: برأ المريض يبرأ أو يبرؤ برءا وبروءا إذا شفى من مرضه.
والأكمه: هو الذى يولد أعمى. يقال كمه كمها إذا ولد أعمى، فهو أكمه وامرأة كمهاء.
والأبرص: هو الذى يكون فى جلده بياض مشوب بحمرة وهو مرض من الأمراض المنفرة التى عجز الأطباء عن شفائها.
والمعنى: أن عيسى - عليه السلام - قال لقومه: والمعجزات التى تدل على صدقى أن أشفى وأعيد الإِبصار إلى من ولد أعمى، وأعيد الشفاء إلى من أصيب بمرض البرص، وأعيد الحياة إلى من مات. ولا أفعل كل ذلك بقدرتى وعلمى وإنما أفعله بإذن الله وبإرادته وأمره.
وخص إبراء الأكمه والأبرص بالذكر لأنهما مرضان عضالان لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منهما فإذا أجرى الله - تعالى - على يد عيسى الشفاء منهما كان ذلك دليلا على أن من وراء الأسباب والمسببات خالقا مختارا لا يعجزه شىء وعلى أن الأسباب ليست مؤثرة بذاتها فى الإِيجاد أو الإِعدام وإنما المؤثر هو الله - تعالى -
وقوله { وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } فيه تدرج من الصعب إلى الأصعب، لأن مما لا شك فيه أن إحياء الموتى خارق عظيم، يدل دلال قاطعة على أن الأسباب العادية ليست هى المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر وأن الأشياء لم تخلق بالعلية - كما يقول الماديون - وإنما خلقت بالإِرادة المختارة والقدرة المبدعة المنشئة المكونة، وهى إرادة خالق الكون وقدرته سبحانه.
وقيد ما يقوم به من إبراء وإحياء بأنه بإذن الله: للتنبيه على أن ما يفعله من خوراق إنما هو بأمر الله وتيسيره وإرادته.
وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء، وكان دعاؤه يا حى يا قيوم، وذكروا من بين من أحياهم سام ابن نوح.
قال ابن كثير: بعث الله كل نبى بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإِسلام. وأما عيسى فعبث فى زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذى شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله لو اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ما استطاعوا أبدا، وماذاك إلا أن كلام الرب لا يشبه كلام الخلق".
وأما المعجزة الخامسة فقد حكاها القرآن في قوله - تعالى - { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ }.
وقوله - تعالى - { وَأُنَبِّئُكُمْ } من الإِنباء وهو الإِخبار بالخبر العظيم الشأن.
وقوله { تَدَّخِرُونَ } من الإِدخار وهو إعداد الشىء لوقت الحاجة إليه. يقال: دخرته وادخرته، إذ أعدته للعقبى. واصله "تذتخرون" بالذال المعجمة - من اذتخر الشىء - بوزن افتعل - فأبدلت التاء دالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت.
والمعنى: أن عيسى - عليه السلام - قد قال لقومه بنى إسرائيل: وإن من معجزاتى التى تدل على صدقى فيما أبلغه عن ربى أنى أخبركم بالشىء الذى تأكلونه وبالشىء الذى تخبئونه فى بيوتكم لوقت حاجتكم إليه.
قال القرطبى: وذلك أنه لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل فى بيوتنا وما ندخر للغد، فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله { وَأُنَبِّئُكُمْ }.
و "ما" في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أى بما تأكلونه وتدخرونه.
ولا شك أن إخبار عيسى - عليه السلام - لقومه بالشىء الذى يأكلونه وبالشىء الذي يدخرونه يدل على صدقه، لأن هذا الإِخبار الغيبى بما لم يعاينه دليل على أن الله - تعالى - قد أعطاه علم ما أخبر به.
ثم ختم الله - تعالى - هذه الآية بقوله: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.
أى إن فى ذلك المذكور من المعجزات التى أجراها الله - تعالى - على يد عيسى - عليه السلام - لدلالة واضحة وعلامة بينة تشهد بصدقه فيما يبلغه عن ربه، إن كنتم يا بنى إسرائيل ممن يصدق بآيات الله ويذعن لها.
فاسم الإِشارة "ذلك" يعود إلى ما سبق ذكره من معجزات عيسى - عليه السلام - وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيات وأذعنتم للحق الذى جئتكم به نم عند الله.
وبعد أن حكى القرآن المعجزات الباهرة التى أيد الله بها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك بالإِشارة إلى طبيعة رسالته فقال - تعالى { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ }.
وقوله - تعالى - { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } عطف على المضمر الذى تعلق به قوله تعالى { بِآيَةٍ } أى قد جئتكم محتجا أو ملتبسا بآية من ربكم، ومصدقا لما بين يدى.. وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه "قد جئتكم".. أى وجئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة، ومعنى تصديقه - عليه السلام - للتوراة والإِيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وأن كتابه يدعو إلى الإِيمان بها.
والمعنى: أن عيسى - عليه السلام - قال لبنى إسرائيل: إن الله - تعالى - قد أرسلنى إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التى تثبت صدقى. وجئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة. أى مقررا لها ومؤمناً بها.
ومعنى ما بين يدى ما تقدم قبلى: لأن المتقدم السابق يمشى بين يدى الجائى فهو هنا تمثيل لحالة السبق، وإن كان بين عيسى - عليه السلام - وبين نزول التوراة أزمنة طويلة لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه فكأنها لم تسبقه بزمن طويل ويستعمل بين يدى كذا فى معنى الحاضر المشاهد كما فى قوله - تعالى -
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } وقوله { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } معمول لمقدر بعد الواو، أى: وجئتكم لأحل لكم بعض الأشياء التى كانت محرمة عليكم فى شريعة موسى - عليه السلام - فهو من عطف الجملة على الجملة.
أى أن شريعة عيسى جاءت متممة لشريعة موسى وناسخة لبعض أحكامها، فلقد حرم الله - تعالى - على بنى إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء فى قوله - تعالى -
{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فجاءت شريعة عيسى - عليه السلام - لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم.
قال ابن كثير: فيه دلالة على أن عيسى - عليه السلام - نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين: ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئا، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا فكشف لهم عن خطئهم كما قال فى الآية
{ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ } قالوا. ومن الأطعمة التى أحلها عيسى لبنى إسرائيل بعد أن كانت محرمة عليهم فى شريعة موسى: لحوم الإِبل والشحوم وبعض الأسماك والطيور.
وقوله { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه.
قال الفخر الرازى "وإنما أعاد قوله - تعالى - { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } لأن إخراج الإِنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر، فأعاد ذكر المعجزات ليكون كلامه ناجعا فى قلوبهم ومؤثرا في طباعهم. ثم خوفهم فقال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعونى فيما آمركم عن ربى".
ثم حكى القرآن أن عيسى - عليه السلام - قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبداً لله مخلوقا له، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أى قال عيسى - عليه السلام - داعيا قومه إلى عبادة الله - تعالى - هو الذى خلقنى وخلقكم وهو الذى ربانى ورباكم، ومادام الأمر كذلك فأخلصوا له العبادة فإن عبادته - سبحانه - وطاعته هى الطريق المستقيم الذى لا اعوجاج فيه ولا التباس.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت لنا بعض المعجزات التى أكرم الله بها عيسى - عليه السلام - كما حكت لنا بعض التوجيهات القويمة، والإِرشادات الحكمية التى نصح بها قومه لكى يسعدوا فى دنياهم وآخرتهم.
والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو: ماذا كان موقف بنى إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات؟
لقد حكى القرآن أن موقف أكثرهم منه كان موقف الكافر به الجاحد لرسالته فقال تعالى: { فَلَمَّآ أَحَسَّ.... }.