التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ
٥٨
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٥٩
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ
٦٠
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ
٦١
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٢
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ
٦٣
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } اسم الإِشارة فيه وهو "ذلك" مشار به إلى المذكور من قصى آل عمران وقصة مريم وأمها، وقصة زكريا وندائه لربه، وقصة عيسى وما أجراه الله - تعالى - على يديه من معجزات وما خصه به من كرامات.
أى ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أى نقصه عليك متتابعا بعضه تلو بعض من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه. فأنت لم تكن معاصراً لهؤلاء الذين ذكرنا لك قصصهم وأحوالهم وهذا من أكبر الأدلة على صدقك فيما تبلغه عن ربك.
وقوله { ذٰلِكَ } مبتدأ وقوله { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } خبره.
وقوله { مِنَ الآيَاتِ } حال من الضمير المنصوب فى { نَتْلُوهُ }.
والمراد بالآيات الحجج الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وقوله { وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } أى والقرآن المحكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمشتمل على الحكم التى من شأنها أن تهدى الناس إلى ما يسعدهم متى اتبعوها وقيل المراد بالذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذى نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام-.
ثم بين - سبحانه - أن خلق عيسى من غير أب ليس مستبعدا على الله - تعالى - فقد خلق آدم كذلك فقال: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }.
والمثل هنا: بمعنى الصفة والحال والعجيبة الشأن، ومحل التمثيل كون كليهما قد خلق بدون أب، والشىء قد يشبه بالشىء متى اجتمعا ولو فى وصف واحد.
والمعنى: إن شأن عيسى وحاله الغريبة { عِندَ ٱللَّهِ } أى فى تقديره وحكمه { كَمَثَلِ ءَادَمَ } أى كصفته وحاله العجيبة فى أن كليهما قد خلقه الله - تعالى - من غير أب، ويزيد آدم على عيسى أنه خلق بدون أم - أيضاً -.
فالآية الكريمة ترد رداً منطقيا حكيما يهدم زعم كل من قال بألوهية المسيح أو اعتبره ابن الله.
وكأن الآية الكريمة تقول لمن ادعى ألوهية عيسى لأنه خلق من غير أب: أنه إذا كان وجود عيسى بدون أب يسوغ لكم أن تجعلوه إلها أو ابن إله فأولى بذلك ثم أولى آدم لأنه خلق من غير أب ولا أم. وما دام لم يدع أحد من الناس ألوهية آدم لهذا السبب فبطل حينئذ القول بألوهية عيسى لانهيار الأساس الذى قام عليه وهو خلقه من غير أب.
ولأنه إذا كان الله - تعالى - قادرا على أن يخلق إنساناً بدون أب ولا أم. فأولى ثم أولى أن يكون قادراً على خلق إنسان من غير أب فقط. ومن أم هى مريم التى تولاها - سبحانه - برعايته وصيانته لها من كل سوء وجعلها وعاء لهذا النبى الكريم عيسى - عليه السلام -.
قال صاحب الكشاف: وقوله { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم - أى للأمر الذى لأجله كان ذلك التشبيه - أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم وكذلك حال عيسى. فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ووجد آدم ن غير أب وأم؟ قلت: هو مثيله فى أحد الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة فى بعض الأوصاف، ولأنه شبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما فى ذلك نظيران. ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأحسن لمادة شبهته إذا نظر فيم هو أغرب مما استغربه".
وقوله { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } تصوير لخلق الله - تعالى - آدم من تراب أى أراد - سبحانه - أن يوجد آدم فصوره من طين ثم قال له حين صوره كن بشرا فصار بشرا كاملا روحا وجسدا كما أمر - سبحانه -.
فالجملة الكريمة تصور نفاذ قدرة الله، تصويرا بديعا يدل على أنه - سبحانه - لا يعجزه شىء فى هذا الكون.
وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء فى "يكون" دون الماضى بأن يقول "فكان" لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن وجهة أخرى فإن صيغة المضارع فى هذا المقام تنبىء عما كان، وتومىء إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله - تعالى - المستمر فى المستقبل كما كان فى الماضى.
ثم بين - سبحانه - أن ما أخبر به عباده فى شأن عيسى وغيره هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل فقال - تعالى - { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ }.
والامتراء هو الشك الذى يدفع الإِنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق.
وهو - كما يقول الرازى - مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذى يجتذب عند الحلب. يقال: قد مارى فلان فلانا إذا جادله كأنه يستخرج غضبه.
والمعنى: هذا الذى أخبرناك عنه يا محمد من شأن عيسى ومن شأن غيره هو الحق الثاتب اليقينى الذى لا مجال للشك فيه، وما دام الأمر كذلك فاثبت على ما أنت عليه من حق، ولا تكونن من الشاكين فى أى شىء مما أخبرناك به.
وقد أكد - سبحانه - أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بثلاثة تأكيدات:
أولها: بالتعريف فى كلمة { ٱلْحَقُّ } أى ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذى لا يخالطه باطل.
ثانيها: بكونه من عنده - سبحانه - وكل شىء من عنده فهو صدق لا ريب فيه.
ثالثها: بالنهى عن الامتراء والشك فى ذلك الحق، لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل أو امتراء.
قال الآلوسى: وقوله { فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } خطاب له صلى الله عليه وسلم ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم بل ذكروا فى هذا الأسلوب فائدتين:
إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد فى الثبات على اليقين نورا على نور.
وثانيتهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التى لا تصل إليها الأمانى - إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره؟ ففى ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم ولطف بغيره".
لقد لقن الله تعالى، نبيه صلى الله عليه وسلم، الجواب الذى يقطع لسان المجادلين بالباطل فى شأن عيسى عليه السلام، فقال تعالى { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ }... إلخ.
قال الفخر الرازى: اعلم أنه "سبحانه" بين أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعهما بذكر الجواب على جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم أن يكون ابنا لله فكذلك لا يلزم من عدم الأب البشرى لعيسى أن يكون ابنا لله. ولما لم يبعد خلق آدم من التراب لم يبعد أيضاً خلق عيسى من الدم الذى كان يجتمع فى رحم أم عيسى. ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى - فعند ذلك - قال سبحانه - { فَمَنْ حَآجَّكَ } بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة.
والفاء فى قوله { فَمَنْ حَآجَّكَ } للتفريع على قوله - تعالى - { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ }.. وقوله { مِن } الراجح فيها أنها شرطية. وقوله { حَآجَّكَ } من المحاجة وهى تبادل الحجة والمجادلة بين شخص وآخر.
والمعنى: فمن جادلك وخاصمك "يا محمد" من أهل الكتاب "فيه" أى فى شأن عيسى - عليه السلام - بأن زعموا أنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الكاذبة فى شأنه.
وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } أى فمن جادلك فى شأن عيسى من بعد الذى أنزلناه إليك وقصصناه عليك فى أمره، فلا تبادله المجادلة، فإنه معاند لا يقنعه الدليل مهما كان واضحا، ولكن قل له ولأمثاله من الضالين:
{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ }.
وقوله { تَعَالَوْاْ } اسم فعل أمر لطلب القدوم. وهو فى الأصل أمر من تعالى يتعالى "كترامى يترامى" إذا قصد العلو. فكأنهم أرادوا به فى الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور.
وقوله { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أى نتباهل ونتلاعن. فالافتعال هنا بمعنى الفاعلة أى بأن نقول: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بفتح الباء وضمها: اللعنة. يقال بهله الله يبهله بهلا لعنه الله وأبعده من رحمته ثم شاعت فى كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا.
والمعنى: فإن جادلك أهل الكتاب فى شأن عيسى من بعد أن أخبرك ربك بما هو الحق من أمره فقل لهم { تَعَالَوْاْ } أى أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه الحق من الباطل، وهو أن ندعو نحن وأنتم الأبناء والنساء ثم نجتمع جميعا فى مكان واحد، ثم نتضرع إلى الله ونبتهل إليه بأن يجعل لعنته على الكاذبين فى دعواهم المنحرفين عن الحق فى اعتقادهم.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد لقنت النبى صلى الله عليه وسلم الجواب الحاسم الذى يخرس ألسنة المجادلين فى عيسى، ويتحداهم - إن كانوا صادقين - أن يقبلوا هذه المباهلة، ولكنهم نكصوا على أعقابهم فثبت كذبهم وضلالهم.
وهذه الآية الكريمة تسمى بآية المباهلة، وقد ذكر العلماء أنها نزلت للرد على نصارى نجران الذين جادلوا النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى - عليه السلام -.
قال ابن كثير ما ملخصه. وكان نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا فى وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة فجعلوا يحاجون فى عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والألوهية فأنزل صدر هذه السورة رداً عليهم.. وكانوا ستين راكبا منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم وهم: العاقب أميرهم واسمه عبد المسيح، والسيد صاحب رحلهم واسمه الأبهم، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم. وفى القصة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله تعالى، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم. دعاهم إلى المباهلة فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر فى أمرنا... ثم خلوا بالعاقب فقالوا. يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمدا لنبى مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط، فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم.. فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم على خراج يؤدونه إليه.
وروى الحافظ ابن مردويه عن جابر قال: قدم على النبى صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"والذى بعثنى بالحق لو لاعنا لأمطر عليهم الوادى ناراً" .
ثم قال: وروى البخارى عن حذيفة قال: "جاء العاقب والسيد صاحب نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، ثم قالا للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا.. فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين. فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة" .
وقال صاحب الكشاف: إن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه؛ وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء؟
قلت: ذلك آكد فى الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له. وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن فى الحروب لتمنعهم من الهرب... وفى الآية دليل واضح على صحة نبوة النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك".
ثم أكد - سبحانه - صدق ما أخبر به عن عيسى وغيره فقال: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.
أى إن الذى قصصناه عليك وأخبرناك به يا محمد من شأن عيسى ومن كل شأن من الشئون لهو القصص الثابت الذى لا مجال فيه لإِنكار منكر، ولا لتشكيك متشكك.
وقد أكد - سبحانه - صدق هذا القصص بحرف إن وباللام فى قوله { لَهُوَ } وبضمير الفصل "هو" وبالقصر الذى تضمنه تعريف الطرفين وذلك ليكون الرد حاسما على كل منكر ما أخبر الله به فى شأن عيسى - عليه السلام - وفى كل ما قصه على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقوله { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } نفى قاطع لأن يكون هناك إله سوى الله - تعالى - وإثبات بأن الألوهية الحقة إنما هى لله رب العالمين.
وقد أكد - سبحانه - نفى الألوهية عن غيره بكلمة { مِنْ } المفيدة لاستغراق النفى استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا.
وقوله { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } "ما" نافية، و "إله" فى قوله { مِنْ إِلَـٰهٍ } مبتدأ و { مِنْ } مزيدة فيه، و { إِلاَّ ٱللَّهُ } خبره والتقدير: وما إله إلا الله، وزيدت من للاستغراق والعموم.
وقوله { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تذييل قصد به تأكيد قصر الألوهية على الله - تعالى - وحده، أى وإن الله - تعالى - لهو المنفرد بالألوهية وحده؛ لأنه هو الغالب الذى يقهر ولا يقهر، الحكيم فى كل ما يخلقه ويدبره.
وفى هذا التذييل أيضاً رد على أولئك الضالين الذين يزعمون أن المسيح إله ويعتقدون مع ذلك أنه صلب ولم يستطع أن يدافع عن نفسه.
ثم ختم - سبحانه - تلك المحاجة بقوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ }.
أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى اخبرناك بها وقصصناها عليك، فأنذرهم بسوء العاقبة، وأخبرهم أن الله - تعالى - عليم بهم، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد فى الأرض. وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم.
فقوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ } قائم مقام جواب الشرط، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة.
وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدا شديداً لهؤلاء المجادلين بالباطل فى شأن عيسى - عليه السلام - ولكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله - تعالى - ليس غافلا عن إفساد المفسدين، وإنما يأخذهم أخذ عيز مقتدر.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم، وما قالته عندما حملت بها، وما قالته بعد ولادتها، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب، ثم ما كان من شأن عيسى - عليه السلام - وما وصفه به من صفات كريمة، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه فى رسالته، مما جعل الحواريين يؤمنون به، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم.
ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله، وأن هذا هو الحق، وقد تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم كل من نازعه فى ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم، فثبت صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه.
وبذلك يكون القرآن قد بين الحق فى شأن عيسى - عليه السلام - بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار، وإخلاص العبادة لله رب العالمين.
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه - فى بضع آيات متوالية - إلى عبادة الله وحده، وإلى ترك المحاجة الباطلة فى شأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وإلى الإِقلاع عن الكفر بآيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق..
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول: { قُلْ يٰأَهْلَ... }.