التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٧٢
وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٧٣
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
٧٤
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فأنت إذا تأملت فى هذه الآيات الكريمة تراها قد حكت عن طائفة من أهل الكتاب طريقة ماكرة لئيمة، هى تظاهرهم بالإِسلام لفترة من الوقت ليحسن الظن بهم من ليس خبيرا بمكرهم وخداعهم، حتى إذا ما اطمأن الناس إليهم جاهروا بكفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، ليوهموا حديثى العهد بالإِسلام أو ضعاف الإِيمان، أنهم قوم يبحثون عن الحقيقة، وأنهم ليس عندهم أى عداء للنبى صلى الله عليه وسلم بل إن الذى حصل منهم هو أنهم بعد دخولهم فى الإِسلام وجدوه دينا باطلا وأنهم ما عادوا إلى دينهم القديم إلا بعد الفحص والاختبار وإمعان النظر فى دين الإِسلام.
ولا شك أن هذه الطريقة التى سلكها بعض اليهود لصرف بعض المسلمين عن الإِسلام من أقوى ما تفتق عنه تديبرهم الشيطانى، لأن إعلانهم الكفر بعد الإِسلام، وبعد إظهارهم الإِيمان به، من شأنه أن يدخل الشك فى القلوب ويوقع ضعاف الإِيمان فى حيرة واضطراب، خاصة وأن العرب - فى مجموعهم - قوم أميون ومنهم من كان يعتقد أن اليهود أعرف منهم بمسائل العقيدة والدين. فيظن أنهم ما ارتدوا عن الإِسلام إلا بعد اطلاعهم على نقص فى تعاليمه.
والمتتبع لمراحل التاريخ قديما وحديثا يرى أن الدهاة فى السياسة والحرب يتخذ هذه الخدعة ذريعة لإِشاعة الخلل والاضطراب فى صفوف أعدائه.
قال الأستاذ الشيخ محمد عبده -رحمه الله : "هذا النوع الذى تحكيه الآيات من صد اليهود عن الإِسلام مبنى على قاعدة طبيعية فى البشر، وهى أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه. وقد فقه هذا، هرقل، ملك الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبى صلى الله عليه وسلم أن قال له: "هل يرتد أحد من أتباع محمد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإِسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على بواطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإِنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب".
هذا، وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة روايات متعددة كلها تدور حول المعنى الذى قررناه.
ومن هذه الروايات ما أخرجه ابن جرير عن قتادة قال فى قوله - تعالى - { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ }.. ألخ قال بعض أهل الكتاب لبعض: "أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره فإنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم ما تكرهونه فى دينهم، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم".
وعن السدى: كان - هؤلاء - أحبار قرى عربية، اثنى عشر حبرا، فقالوا لبعضهم: ادخلوا فى دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمدا حق صادق. فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدثونا أن محمدا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟ فأخبر الله - عز وجل - رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك".
والمعنى: { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أى: فيما بينهم ليلبسوا على الضعفاء أمر دينهم { آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ } أى قال بعضهم لبعض: نافقوا وأظهروا التصديق بالإِسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وبما أنزل عليه وعلى أصحابه من قرآن { وَجْهَ ٱلنَّهَارِ } أى فى أول النهار.
وسمى أول النهار وجها، لأنه أول ما يواجهك منه، وأول وقت ظهوره ووضوحه. وقوله { وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } معطوف على { آمَنُواْ }.
أى: آمنوا فى أول النهار واكفروا فى آخره، بأن تعودوا إلى اليهودية، أملا فى أن ينخدع بحيلتكم هذه بعض المسلمين، فيشكوا فى دينهم، ويعودوا إلى الكفر بعد دخولهم فى الإِسلام.
وقوله { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } كشف عن مقصدهم الخبيث، وهو ابتغاؤهم رجوع بعض المؤمنين عن دينهم الحق إلى ما كانوا عليه من باطل.
قال الفخر الرازى: "والفائدة فى إخبار الله - تعالى - عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه:
الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزاً.
الثانى: أنه - تعالى - لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر فى قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإِعلام لكان ربما أثرت هذه الحيلة فى قلب بعض من كان فى إيمانه ضعف.
الثالث: أن القوم لما افتضحوا فى هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإِقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس".
ثم حكى - سبحانه - لونا من عصبيتهم وتعاونهم على الإِثم والعدوان فقال تعالى: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ }.
وقوله - سبحانه - حكاية عنهم { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } معطوف على قوله - تعالى - فى الآية السابقة { آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ }.
وقد فسر بعضهم { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } بمعنى ولا تقروا، أو ولا تعترفوا؛ فتكون اللام فى قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أصلية.
وعليه يكون المعنى: أن بعض اليهود قد قالوا لبعض: أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره، لعل هذا العمل منكم يحمل بعض المسلمين على أن يتركوا دينهم الإِسلام، ويعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا أيضا على سبيل المكر والخديعة، ولا تقروا ولا تعترفوا بأن أحداً من المسلمين أو من غيرهم يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة والفضائل، أو بأن أحدا فى قدرته أن يحاججكم أى يبادلكم الحجة عند ربكم يوم القيامة، ولا تقروا ولا تعترفوا بشىء من ذلك "إلا لن تبع دينكم" أى إلا لمن كان على ملتكم اليهودية دون غيرها.
فالمستثنى منه على هذا التفسير محذوف، والتقدير: ولا تؤمنوا أى تقروا وتعترفوا لأحد من الناس بأن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحداً يحاججكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم، لأن إقراركم بذلك أمام المسلمين أو غيرهم ممن هو على غير ملتكم سيؤدى إلى ضعفكم وإلى قوة المسلمين.
فهم على هذا التفسير يعلمون ويعتقدون بأن المؤمنين قد أوتوا مثلهم من الدين والفضائل عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله الله رحمة للعالمين، ولكنهم لشدة حسدهم وبغضهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه، قد تواصوا فيما بينهم بأن يكتموا هذا العلم وتلك المعرفة، ولا يظهروا ذلك إلا فيما بينهم، وصدق الله إذ يقول فى شأنهم
{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره للآية بهذا الوجه فقال: "قوله { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } متعلق بقوله: { أَن يُؤْتَىۤ } وما بينهما اعتراض، أى: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإِسلام { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } عطف على أن يؤتى. والضمير فى يحاجوكم لأحد، لأنه فى معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة ويغالبونكم عند الله - تعالى بالحجة".
هذا هو الوجه الأول فى تفسير الآية الكريمة.
وهناك وجه آخر يرى أصحابه أن قوله تعالى - { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } بمعنى ولا تصدقوا أو ولا تعتقدوا، فتكون اللام فى قوله { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } زائدة للتقوية.
فيصير المعنى على هذا الوجه: أن بعض اليهود قد قالوا لبعض: أظهروا الإِسلام أول النهار واكفروا آخره لعل عملكم هذا يجعل بعض المسلمين يترك دينه ويعود إلى الكفر الذى كان عليه، ولا تصدقوا أن أحدا من البشر يؤتى مثل ما أتيتم يا بنى إسرائيل من الكتاب والنبوة، أو أن أحدا فى قدرته أن يحاججكم عند ربكم فأنتم الأعلون فى الدنيا والآخرة وأنتم الذين لا تخرج النبوة من بينكم إلى العرب، وما دام الأمر كذلك فلا تتبعوا إلا نبياً منكم يقرر شرائع التوراة، أما من جاء بتغيير شىء من أحكامها أو كان من غير بنى إسرائيل كمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تصدقوه.
فالمستثنى منه على هذا الوجه هو قوله "أحد" المذكور فى الآية، والمستثنى هو قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ }.
والتقدير: ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أى إلا من كان على ملتكم اليهودية، أما أن يكون من غيركم كهذا النبى العربى فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، لأنهما - فى زعمهم - حكر على بنى إسرائيل.
فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتاباً وديناً وفضائل مثل ما أوتوا هم أى اليهود، ويرون أنفسهم - لغرورهم وانطماس بصيرتهم - أنهم أهدى سبيلا من كل من سواهم من البشر.
وعلى كل من الوجهين يكون قوله - تعالى - { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } مفعول به لتؤمنوا.
والتقدير: ولا تصدقوا أو ولا تقروا لأحد بأن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحدا يحاججكم عند ربكم.
وعلى كل من الوجهين - أيضا - يكون قوله - تعالى -: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وقوله { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } حكاية من الله - تعالى - لما تواصى به بعض اليهود فيما بينهم من أقوال خبيثة، وأفكار ماكرة.
ويكون قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } كلاما معترضا بين أقوالهم ساقه الله - تعالى - للمسارعة بالرد على أقوالهم الذميمة حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ويزدادوا هم رجسا إلى رجسهم، وينكشف ما أضمروه وما بيتوه للمؤمنين من سوء وحقد.
أى قل لهم يا محمد إن هداية الله - تعالى - ملك له وحده، وهو الذى يهبها لمن يشاء من عباده، فهى ليست حكراً على أحد، ولا أمرا مقصورا على قوم دون قوم، وإذا كانت النبوة قد ظلت فترة من الزمان فى بنى إسرائيل، فالله - تعالى - قادر على أن يسلبها منهم لأنهم لم يشكروه عليها وأن يجعلها فى محمد العربى صلى الله عليه وسلم لأنه أهل لها وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته.
هذا، ويرى بعض المفسرين أن أقوال اليهود التى حكاها القرآن عنهم قد انتهت بنهاية قوله - تعالى - { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وأما قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } فهو من كلام الله - تعالى - وقد ساقه - سبحانه - للرد عليهم.
فيكون المعنى عليه: أن بعض اليهود قد قال لبعض: أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره لعل بعض المسلمين يرجع عن دينه بسبب فعلكم هذا، ولا تعترفوا بفعلكم هذا إلا لأهل دينكم من اليهود حتى يبقى عملكم هذا سرا له أثره فى بلبلة أفكار المسلمين ورجوع بعضهم عن الإِسلام.
وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم وبالكشف عن مكرهم فيقول: قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله، أى إن هداية الله ملك له وحده فهو الذى يهدى من يشاء وهو الذى يضل من يشاء، وقد هدانا - سبحانه - إلى الإِسلام وارتضيناه دينا لنا ولن نرجع عنه.
وقل لهم كذلك على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم: أمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة: أو مخافة أن يحاججكم المسلمون عند ربكم يوم القيامة حيث آمنوا بالحق وأنتم كفرتم به، أمخافة ذلك دبرتم ما دبرتم من هذه الأقوال السيئة والأفعال الخبيثة؟ لا شك أنه لم يحملكم على ذلك المنكر السىء إلا الحسد لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه وزعمكم أنكم أفضل منهم لأنكم - كما تدعون - أبناء الله وأحباؤه فدفعكم ذلك كله إلى كراهية دينه والكيد لأتباعه.
قالوا: ويؤيد هذا الوجه من التفسير للآية قراءة ابن كثير "أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم..." بهمزتين أولاهما للاستفهام الذى قصد به التوبيخ والإِنكار، والثانية هى همزة أن المصدرية.
وقد أشار إلى هذا الوجه الفخر الرازى فقال ما ملخصه: "واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة... ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } من كلام الله - تعالى - فقد قرا ابن كثير "آن يؤتى أحد.." بمد الألف على الاستفهام، ويكون الاستفهام للتوبيخ كقوله - تعالى - { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }. والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع تنكرون اتباعه، ثم حذف الجواب للاختصار، وهذا الحذف كثير.
يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه. وبعد كثرة إحسانه إليه: أمن قلة إحسانى إليك؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت".
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم مرة ثانية حتى يبطل مزاعمهم ويفضحهم على رؤس الأشهاد فقال: { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أى قل لهم يا محمد: إن الفضل - الذى يتناول النبوة وغيرها من نعم الله على عباده - هذا الفضل وذلك العطاء بيد الله - تعالى- وحده، وهو - سبحانه - المتفضل به على من يشاء التفضل عليه من عباده، وإذا كان - سبحانه - قد جعل النبوة فى بنى إسرائيل لفترة من الزمان، فذلك بفضل منه وبرحمته، وإذا كان قد سلبها عنهم لأنهم لم يرعوها حق رعايتها وجعلها فى هذا النبى العربى فذلك - أيضا - بفضله ورحمته، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته، وهو - سبحانه - صاحب الاختيار المطلق فى أن يؤتى فضله لمن يشاء من عباده. وهو - سبحانه - { وَاسِعٌ } الرحمة والفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحقها وبمن لا يستحقها.
ثم قال - تعالى - { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أى يختص بالنبوة وما يترتب عليها من الهداية والنعم من يشاء من عباده.
وقوله { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أى هو - سبحانه - صاحب الجود العميم والفضل العظيم، فلا عظمة تساوى عظمة فضل الله - تعالى - على خلقه، وإنما هو وحده صاحب النعم التى لا تحصى على عباده، فعليهم أن يشكروه وأن يفردوه بالعبادة والخضوع.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد كشفت عن مسلك من مسالك اليهود الماكرة التى أرادوا من ورائها كيد الإِسلام والمسلمين، وفى هذا الكشف تنبيه للمسلمين إلى ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء من شرور وآثام حتى يحذروهم.
ثم حكى القرآن لونا آخر من ألوان مزاعم اليهود الباطلة، وأقاويلهم الكاذبة، وهو دعواهم أنهم ليس عليهم فى الأميين سبيل، أى أن كل من كان على غير ملتهم فإنه مهدور الحقوق، ثم رد عليهم بما يدحض مزاعمهم ويثبت أنهم ليسوا أهلا لاختصاصهم بالنبوة والرحمة فقال تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ... }.