التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوۤاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٦
أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
٨٧
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٨٨
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٨٩
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون روايات فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة منها ما أخرجه النسائى عن ابن عباس قال. إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم؛ فأرسل إلى قومه: سلوا لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لى من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا. هل له من توبة؟ فنزلت هذه الآيات، فأرسل إليه قومه فأسلم.
وعن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله هذه الآيات. قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه. فقال الحارث: إنك والله - ما علمت - لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه وعن الحسن البصرى أنه قال: إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت النبى صلى الله عليه وسلم فى كتابهم وأقروا به، وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم.
هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات، ويبدو لنا أن أقربها إلى سياق الآيات هى الرواية التى جاءت عن الحسن البصرى بأن المقصود بالآيات أهل الكتاب، وذلك لأن الحديث معهم من أول السورة ولأن القرآن قد ذكر فى غير موضع أن أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق النبى صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وأنهم كانوا يستفتحون به
{ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } ومع هذا فليس هناك ما يمنع من أن يكون حكم هذه الآيات شاملا لكل من ذكرتهم الروايات ولكل من يشابههم، إذ العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال ابن جرير - بعد أن ساق هذه الروايات - ما ملخصه: وأشبه هذه الأقوال بظاهر التنزيل ما قاله الحسن: من أن هذه الآيات معنى بها أهل الكتاب على ما قال، وجائز أن يكون الله - تعالى - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإِسلام، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم فى ارتداده عن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فى هذه الآيات، ثم عرف عباده سنته فيهم فيكون داخلا فى ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ثم كفر به بعد أن بعث، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وهو حى عن إسلامه، فيكون معينا بالآيات جميع هذين الصنفين وغيرهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله.
والاستفهام فى قوله - تعالى - { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } للنفى ولاستبعاد هدايتهم إلى الصراط المستقيم وهم على هذا الحال من الارتكاس فى الكفر والضلال، مع علمهم بالحق، وإيمانهم به لفترة من الوقت.
والمعنى: أن الله - تعالى - جرت سنته فى خلقه ألا يهدى إلى الصراط المستقيم، قوما { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } أى ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا، وبعد أن { شَهِدُوۤاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم "حق" وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه، وبعد أن { جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } أى البراهين والحجج الناطقة بحقيقة ما يدعيه، من قرآن كريم عجز البشر عن الإِتيان بسورة من مثله، ومن معجزات باهرة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم.
فأنت ترى أن حالهم التى أوجبت هذا النفى والاستبعاد تتمثل فى أنهم كانوا مؤمنين، وكانوا يشهدون بأن الرسول حق، وجاءتهم البينات اليقينية الملزمة التى تؤيد إيمانهم وشهادتهم، ومع كل ذلك استحبوا العمى على الهدى، واختاروا الكفر على الإِيمان، واستولى عليهم التعصب بالباطل فأرداهم وحرمهم من هداية الله حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوبوا عن غيهم، ويصلحوا ما أفسدوه، ويخلصوا وينيبوا إلى خالقهم وبارئهم.
قال صاحب الكشاف: "قوله { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً } أى كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التى تثبت بمثلها النبوة - وهم اليهود - كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات.
فإن قلت: علام عطف قوله { وَشَهِدُوۤا }؟ قلت: فيه وجهان: أن يعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل، لأن معناه بعد أن آمنوا. ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار "قد". بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق".
وقوله - تعالى - { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } جملة حالية أو معترضة.
والمعنى: أنه - سبحانه - قد مضت سنته فى خلقه أنه لا يهدى إلى الحق أولئك الذين آثروا الكفر على الإِيمان، عن تعمد وإصرار، ووضعوا الشىء فى غير موضعه مع علمهم بسوء صنيعهم.
وفى تذييل الآية الكريمة بهذه الجملة مع إطلاق لفظ الظلم، إشعار بأنهم قد ظلموا أنفسهم بإيقاعها فى مهاوى الردى والعذاب وظلموا الرسول الذى شهدوا له بأن ما جاء به هو الحق ثم كفروا به، وظلموا الحقائق والبراهين التى نطقت بأحقية الإِيمان وببطلان الكفر ثم تركوا هذه الحقائق والبراهين وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم ومطامعهم.
وإن الظلم متى سيطر على النفوس أفقدها رشدها وإدراكها للأمور إدراكا سليما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
"اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة" .
ثم بين - سبحانه - عاقبة هؤلاء الظالمين فقال: { أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }.
قال الراغب: اللعن: الطرد والإِبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله - تعالى - فى الآخرة عقوبة وفى الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإِنسان دعاء على غيره".
والمعنى: أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ } أى جزاؤهم أن عليهم غضب الله وسخطه بسبب استحبابهم الكفر على الإِيمان { وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أى وعليهم كذلك سخط الملائكة والناس أجمعين وغضبهم، ودعاؤهم عليهم باللعنة والطرد من رحمة الله.
وقوله { أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأ. وقوله { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثان، وقوله { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ } إلخ.. خبر المبتدأ الثانى، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول.
والآية الكريمة قد بينت أن اللعنة على هؤلاء القوم، صادرة من الله وهى أشد ألوان اللعن، وصادرة من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وصادرة من الناس أجمعين، أى أن الفطر الإِنسانية تلعنهم لنبذهم الحق بعد أن عرفوه وشهدوا به، وقامت بين أيديهم الأدلة على أنه حق.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: فإن قيل: لم عم جميع الناس مع أن من وافقهم فى كفرهم لا يلعنهم؟ قلنا فيه وجوه: منها أنهم فى الآخرة يلعن بعضهم بعضا كما قال - تعالى -
{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } فعلى هذا التقدير يكون اللعن قد حصل للكفار من الكفار. ومنها كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال { أَجْمَعِينَ }. ومنها وهو الأصح عندى: أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد فى نفسه أنه ليس بمبطل ولا كافر، فإذا لعن الكافر وكان هو فى علم الله كافرا فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك".
ثم أكد - سبحانه - تلك العقوبة بعقوبة أخرى لازمة لها ما داموا على تلك الحالة الشنيعة فقال - تعالى - { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } بسبب إصرارهم على الكفر فى الدنيا، وانغماسهم فيما يغضب الله { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أى ولا هم يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب بل عذابهم عاجل لا يقبل الإِمهال أو التأخير بسبب ما ارتكبوه فى الدنيا من شرور وآثام.
ولكن القرآن - مع هذا - يفتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب، وينهى الناس عن أن يقنطوا من رحمة الله متى تابوا وأنابوا وأصلحوا فيقول - بعد تلك الحملة المرعبة التى شنها على الكفر والكافرين: - { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى: أن اللعنة مستمرة على هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وهم خالدون فى العذاب يوم القيامة بدون إمهال أو تأخير، إلا الذين تابوا منهم عن الكفر الذى ارتكبوه، وعن الظلم الذى اقترفوه، وأصلحوا ما أفسدوه بأن قالوا ربنا الله ثم استقاموا على طريق الحق، وحافظوا على أداء الأعمال الصالحة "فإن الله - تعالى - غفور رحيم" أى فإنه سبحانه يغفر لهم ما سلف منهم من كفر وظلم.
ففى هذه الآية الكريمة إغراء للكافرين بأن يقلعوا عن كفرهم وللمذنبين بأن يثوبوا إلى رشدهم وبأن يتوبوا إلى ربهم، فإنه - سبحانه - يغفر الذنوب جميعا لمن يتوب ويحسن التوبة، فهو القائل
{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } أما الذين لا يتوبون ولا يستغفرون ولا يثوبون إلى رشدهم. بل يصرون على الكفر فيزدادون كفراً. والذين يرتكسون فى كفرهم وضلالهم حتى تفلت منهم الفرصة، وينتهى أمد الاختبار، ويأتى دور الجزاء، فهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة، فقد قال - تعالى - بعد هذه الآيات: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... }.