التفاسير

< >
عرض

فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
١٧
وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ
١٨
يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
١٩
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ
٢٠
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ
٢٢
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٢٣
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٤
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
٢٥
وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
٢٦
وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٧
-الروم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قالوا الإِمام الرازى: لما بين - سبحانه - عظمته فى الابتداء بقوله { { مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } وعظمته فى الانتهاء، بقوله: { { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ } وأن الناس يتفرقون فريقين، ويحكم - عز وجل - على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالى، وهؤلاء للنار ولا أبالى، بعد كل ذلك أمر بتنزيهه عن كل سوء، وبحمده على كل حال، فقال: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ }.
والفاء فى قوله: { فَسُبْحَانَ.. } لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ولفظ "سبحان" اسم مصدر، منصوب بفعل محذوف. والتسبيح: تنزيه الله - تعالى -: عن كل ما لا يليق بجلاله. والمعنى إذا علمتم ما أخبرتكم به قبل ذلك، فسبحوا الله - تعالى - ونزهوه كل نقص { حِينَ تُمْسُونَ } أى: حين تدخلون فى وقت المساء، { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } أى: تدخلون فى وقت الصباح.
وقوله - تعالى -: { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } جملة معترضة لبيان أن جميع الكائنات تحمده على نعمه، وأن فوائد هذا الثناء تعود عليهم لا عليه - سبحانه -.
وقوله { وَعَشِيّاً } معطوف على { حِينَ تُمْسُونَ } أى: سبحوا الله - تعالى -: حين تمسون، وحين تصبحون، وحين يستركم الليل بظلامه. وحين تكونون فى وقت الظهيرة، فإنه - سبحانه - هو المستحق للحمد والثناء من أهل السماوات ومن أهل الأرض، ومن جميع المخلوقات.
قال ابن كثير: وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذى وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى، سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" .
وفى حديث آخر: "من قال حين يصبح: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون..أدرك ما فاته فى يومه، ومن قالها حين يسمى، أدرك ما فاته فى ليلته" .
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر قدرته فقال: { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } كإخراجه الإِنسان من النطفة، والنبات من الحب، والمؤمن من الكفار { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } كما فى عكس هذه الأمور، كإخراجه النطفة من الإِنسان، والحب من النبات، والكافر من المؤمن.
{ وَيُحْيِي ٱلأَرْضَ } بالنبات { بَعْدَ مَوْتِهَا }: أى: بعد قحطها وجدبها، كما قال - سبحانه -:
{ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } وقوله - تعالى -: { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } تذييل قصد به تقريب إمكانة البعث من العقول والأفهام. أى: ومثل هذا الإِخراج البديع للنبات من الأرض، وللحى من الميت، نخرجكم - أيها الناس - من قبوركم يوم القيامة، للحساب والجزاء.
ثم أورد - سبحانه - بعد ذلك أنواعا من الأدلة على قدرته التى لا يعجزها شئ، فقال - تعالى - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }.
والآيات: جمع آية، وتطلق على الآية القرآنية، وعلى الشئ العجيب، كما فى قوله - تعالى -:
{ { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } ..والمراد بها هنا: الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة، الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته.
والمعنى: ومن آياته - سبحانه - الدالة على عظمته، وعلى كمال قدرته، أنه خلقكم من تراب، أى: خلق أباكم آدم من تراب، وأنتم فروع عنه.
و "إذ" فى قوله: { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } هى الفجائية.
أى: خلقكم بتلك الصورة البديعة من مادة التراب التى لا يرى فيها رائحة للحياة، ثم صرتم بعد خَلْقِنا إياكم فى أطوار متعددة، بشرا تنتشرون فى الأرض، وتمشون فى مناكبها، وتتقلبون فيها تارة عن طريق الزراعة، وتارة عن طريق التجارة، وتارة عن طريق الأسفار.. كل ذلك طلبا للرزق، ولجمع الأموال.
وعبر - سبحانه - بثم المفيدة للتراخى، لأن انتشارهم فى الأرض لا يتأتى إلا بعد مرورهم بأطوار متعددة، منها أطوار خلقهم فى بطون أمهاتهم، وأطوار طفولتهم وصباهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد.
قال الشوكانى: وإذا الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء لكنها وقعت هنا بعد ثم، بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة، وهى أطوار الإِنسان، كما حكاها الله - تعالى - فى مواضع، من كونه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمها مكسوها لحما.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان آية ثانية، دالة على كمال قدرته ورأفته بعباده، فقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أى: ومن آياته الدالة على رحمته بكم، أنه - سبحانه - خلق لكم { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أى: من جنسكم فى البشرية والإِنسانية أزواجا.
قال الآلوسى: قوله: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم - عليه السلام - متضمن لخلقهن من أنفسكم "فمن" للتبعيض والأنفس بمعناها الحقيقى، ويجوز أن تكون "من" ابتدائية، والأنفس مجاز عن الجنس، أى: خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر، قيل: وهو الأوفق لما بعد.
وقوله - سبحانه -: { لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا } بيان لعلة خلقهم على هذه الطريقة. أى: خلق لكم من جنسكم أزواجا، لتسكنوا إليها، ويميل بعضكم إلى بعض، فإن الجنس إلى الجنس أميل، والنوع إلى النوع أكثر ائتلافا وانسجاما { وَجَعَلَ } - سبحانه - { بَيْنَكُم } يا معشر الأزواج والزوجات { مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } أى: محبة ورأفة، لم تكن بينكم قبل ذلك، وإنما حدثت عن طريق الزواج الذى شرعه - سبحانه - بين الرجال والنساء، والذى وصفه - تعالى - بهذا الوصف الدقيق، فى قوله - عز وجل -:
{ { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } }. { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى ذكرناه لكم قبل ذلك { لآيَاتٍ } عظمة تهدى إلى الرشد وإلى الاعتبار { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فى مظاهر قدرة الله - تعالى - ورحمته بخلقه.
ثم ذكر - سبحانه - آية ثالثة فقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى: ومن آياته الدالة على قدرته التامة على كل شئ، خلقه للسماوات والأرض بتلك الصورة البديعة { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ } أى: واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية.. إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التى يتكلم بها أفرادها، ومئات اللهجات { وَأَلْوَانِكُمْ } أى: ومن آياته كذلك، اختلاف ألوانكم، فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أصفر، وهذا أشقر.. مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء. بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقا تاما فى خلقتهما وشكلهما.
قال صاحب الكشاف: الألسنة: اللغات. او اجناس النطق واشكاله. خالف - عز وجل - بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين فى همس واحد، ولا جهارة، ولا حدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة.. ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، ولو اتفقت وتشاكلت، وكانت ضربا واحدا، لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة... وهم على الكثرة التى لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون.
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الذى وضحناه لكم { لآيَاتٍ } بينات { لِّلْعَالَمِينَ } - بفتح اللام - وهى قراءة الجمهور، أى: إن فى ذلك لآيات لجميع أصناف العالم من بار وفاجر، ومؤمن وكافر.
وقرأ حفص - بكسر اللام - أى: إن فى ذلك لآيات لأولى العلم والفهم من الناس.
ثم ذكر - سبحانه - آية رابعة فقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم } أى: نومكم { بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } لراحة أبدانكم وأذهانكم، { وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } أى: وطلبكم أرزاقكم فيهما من فضل الله وعطائه الواسع.
قال الجمل: قيل فى الآية تقديم وتأخير، ليكون كل واحد مع ما يلائمه، والتقدير: ومن آياته مناكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل، وعطف عليه، لأن حرف العطف قد يقوم مقام الجار، والأحسن أن يجعل على حاله، والنوم بالنهار مما كانت العرب تعده نعمة من الله ولا سيما فى أوقات القيلولة فى البلاد الحارة"
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } كله { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } هذه التوجيهات سماع تدبر وتفكر واعتبار فيعملون بما يسمعون.
ثم ساق - سبحانه - آية خامسة فقال: ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا.
أى: ومن آياته - سبحانه - الدالة على قدرته، أنه يريكم البرق، فتارة تخافون مما يحدث بعده من صواعق متلفة، وأمطار مزعجة، وتارة ترجون من ورائه المطر النافع، والغيب المدرار.
وانتصاب "خوفا وطمعا" على أنهما مفعول لأجله، أى: يريكم ذلك من أجل الخوف والطمع، إذ بهما يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء، فلا يبطر ولا ييأس من رحمة الله. { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } كثيرا { فَيُحْيِي بِهِ } أى: بسبب هذا الماء { ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أى: بأن يحولها من أرض جدباء هامدة إلى أرض خضراء زاخرة بالنبات { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } هذه الإِرشادات، ويستعملون عقولهم فى الخير لا فى الشر، وفى الحق لا فى الباطل، وفى استنباط المعانى الدالة على كمال قدرة الله - تعالى - ورحمته.
ثم ذكر - سبحانه - آية سادسة فقال: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ بِأَمْرِهِ } والمراد بقيامهما: ثباتهما وبقاؤهما بتلك الصورة العجيبة البديعة.
أى: ومن آياته - سبحانه - الدالة على كمال قدرته، خلقه للسماوات وللأرض، وإبقاؤه لهما على هذه الصورة البديعة، وقيامهما وثباتهما واستمساكهما على تلك الهيئة العجيبة، وذلك كله بإرادته وأمره ومشيئته.
قال ابن كثير: وشبيه بذلك قوله - تعالى -:
{ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } }. وقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } }. وكان عمر بن الخطاب. رضى الله عنه - إذا اجتهد فى اليمين قال: لا، والله الذى تقوم السماء والأرض بأمره، أى: هى قائمة ثابتة بأمره وتسخيره إياها.
وقوله - تعالى -: { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } بيان لامتثالهم لأمهر بدون تقاعس، عندما يدعوهم الداعى للخروج من قبورهم للبعث والحساب.
و"ثم" بعدها كلام محذوف، و"وإذا" الأولى شرطيه، والثانية فجائية، والداعى هو إسرافيل بأمر الله - تعالى -: وقوله: { مِّنَ ٱلأَرْضِ } متعلق بقوله { دَعَاكُمْ }.
أى: ثم بعد موتكم ووضعكم فى قبوركم، إذا دعاكم الداعى دعوة واحدة من الأرض التى أنتم مستقرون فيها، إذا أنتم تخرجون من قبوركم مسرعين بدون تلبث أو توقف، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعى المطاع.
قال صاحب الكشاف: وإنما عطف هذه الجملة على قيام السماوات والأرض بثم، بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر، واقتداره - سبحانه - على مثله وهو أن يقول: يا أهل القبول قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كما قال - تعالى -:
{ { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } }. وكما فى قوله - سبحانه -: { { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } وكما فى قوله - عز وجل -: { { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } }. ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات، بآية جامعة لكل معانى القدرة والإِيجاد والهيمنة على هذا الكون فقال: { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى من الملائكة والجن والإِنس، خلقا، وملكا، وتصرفا، كل ذلك له وحده - سبحانه - لا لأحد غيره.
وقوله: { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مؤكد لما قبله ومقرر له، أى: كل الخلائق له لا لغيره طائعون خاضعون، خاشعون، طوعا وكرها، إذ لا يمتنع عليه - سبحانه - شئ يريد فعله بهم، من حياة أو موت، ومن صحة أو مرض، ومن غنى أو فقر.
هذا، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة، يرى أكثر من عشرة أدلة، على وحدانية الله - تعالى - وعلى انفراده بالخلق، وعلى إمكانية البعث، ومن هذه الأدلة خلق الإِنسان من تراب، وصيرورته بعد تقلبه فى أطوار التكوين بشراً سويا، وإيجاده - سبحانه - للذكور والإِناث، حتى يبقى النوع الإِنسانى إلى الوقت المقدر فى علمه - تعالى -: وإيجاده للناس على هذه الصورة التى اختلفت معها ألسنتهم وألوانهم، مع أن أصلهم واحد، وجعله - تعالى - الليل مناما لراحة الناس، والنهار معاشا لابتغاء الرزق، وإنزاله المطر من السماء لإِحياء الأرض بالنبات، وبقاء السماوات والأرض على هذه الصورة العجيبة بأمره وتدبيره.. إلى غير من الأدلة المبثوثة فى الأنفس والآفاق.
ثم أكد - سبحانه - ما يدل على إمكانية البعث، فقال - تعالى -: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... }.
أى: وهو - سبحانه - الذى يبدأ الخلق بدون مثال سابق، ثم يعيد هذه المخلوقات بعد موتها إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء.
والضمير فى قوله: { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } للإِعادة المفهومة من قوله { ثُمَّ يُعِيدُهُ } والتذكير للضمير باعتبار المعنى، أى: والعود أو الرد، أو الإِرجاع أهون عليه.
أى: وهو - سبحانه - وحده الذى يخلق المخلوقات من العدم، ثم يعيدها إلى الحياة مرة أخرى فى الوقت الذى يريده، وهذه الإِعادة للأموات أهون عليه، أى: أسهل عليه من البدء.
وهذه الأسهلية على طريقة التمثيل والتقريب، بما هو معروف عند الناس من أن إعادة الشئ من مادته الأولى أسهل من ابتدائه.
ورحم الله صاحب الكشاف، فقد وضح هذا المعنى فقال: قوله: { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أى: فيما يجب عندكم، وينقاس على أصولكم، ويقتضيه معقولكم لأن من أعاد منكم صنعة شئ كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وتعتذرون للصانع اذا خَطِئَ فى بعض ما ينشئه بقولكم: أول الغزل أخرق، وتسمون الماهر فى صناعته معاودا، تعنون أنه عاودها كرة بعد أخرى، حتى مرن عليها وهانت عليه.
فإن قلت لم أخرت الصلة فى قوله: { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدمت فى قوله
{ { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } قلت. هناك قصد الاختصاص وهو محزه، فقيل: هو عليه هين، وأن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هِملّ. أى: شيخ فان - وعاقر. وأما هنا فلا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون، من أن الإِعادة أسهل من الابتداء، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى..".
ومنهم من يرى أن أهون هنا بمعنى هين، إرجاعكم إلى الحياة بعد موتكم هين عليه. والعرب تجعل أفعل بمعنى فاعل فى كثير من كلامهم، ومنه قول الشاعر:

إن الذى سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول

أى: بنى لنا بيتا دعائمه عزيزة طويلة ومنه قولهم: الله أكبر أى: كبير.
وقوله - تعالى -: { وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ.. } أى: وله - سبحانه - الوصف الأعلى الذى ليس لغيره مثله، لا فى السماوات ولا فى الأرض، إذ لا يشاركه أحد فى ذاته و صفاته فهو - سبحانه - ليس كمثله شئ.
{ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الذى يَغلب ولا يُغلب { ٱلْحَكِيمُ } فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
وبعد هذا التطواف المتنوع فى آفاق الأنفس، وفى أعماق هذا الكون، ضرب - سبحانه - مثلا لا مجال للجدل فيه، لوضوحه واعتماده على المنطق السليم، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضى فى طريقه المستقيم، كما أمر المؤمنين بأن يلتجئوا إليه - سبحانه - وحده وأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه، فقال - تعالى -: { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً....لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }.