التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
٨
أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٩
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
١٠
-الروم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى.. } لتوبيخ أولئك الكافرين الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. و { مَّا } فى قوله { مَّا خَلَقَ } للنفى، والباء فى قوله { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } للملابسة. وقوله: { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } معطوف على الحق.
والمعنى: أبلغ الجهل بهؤلاء الكافرين، أنهم اكتفوا بالانهماك فى متع الحياة الدنيا، ولم يتفكروا فى أحوال أنفسهم وفى أطوار خلقها، لأنهم لو تفكروا لعلموا وأيقنوا، أن الله - تعالى -: ما خلق السماوات والأرض وما بينهما، إلا ملتبسه بالحق الذى يشوبه باطل، وبالحكمة التى لا يحرم حولها عبث، وقد قدر - سبحانه - لهذه المخلوقات جميعها أجلا معينا تنتهى عنده، وهو وقت قيام الساعة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء الأشقياء، غفلتهم عن الدار الآخرة وما فيها من حساب، وتحضهم على التفكر فى تكوين أنفسهم، وفى ملكوت السماوات والأرض، لأن هذا التفكر من شأنه أن يهدىإلى الحق، كما تلفت أنظارهم إلى أن لهذا الكون كله نهاية ينتهى عندها، وقت أن يأذن الله - تعالى - بذلك، وبقيام الساعة.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان موقف الأكثرية من الناس من قضية البعث والجزاء فقال: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }.
أى: وإن كثيرا من الناس لفى انشغال تام بدنياهم عن آخرتهم، ولا يؤمنون بما فى الآخرة من حسبا وثواب وعقاب، بل يقولون: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، وعلى راس هذا الصنف من الناس مشركو مكة الذين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم فيهم، لإِخراجهم من الظلمات إلى النور.
وقال - سبحانه -: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ.. } للإِشعار بان هناك عددا قليلا من الناس - بالنسبة لهؤلاء الكثيرين - قد آمنوا بلقاء ربهم، واستعدوا لهذا اللقاء عن طريق العمل الصالح الذى يرضى خالقهم - عز وجل -.
ثم قرعهم - سبحانه - للمرة الثانية على عدم اتعاظهم بأحوال السابقين من الأمم قبلهم، فقال - تعالى -: { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.. }.
أى: أقعد مشركو مكة فى ديارهم، ولم يسيروا فى الأرض سير المتأملين المتفكرين المعتبرين فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، من الأمم الماضية، كقوم عاد وثمود، وقوم لوط.
وقوله - سبحانه -: { كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } بيان لحال لهؤلاء الأقوام السابقين { وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ } أى: كان أولئك السابقون أقوى من أهل مكة فى كل مجال من مجالات القوة، وكانوا أقدر منهم على حراثة الأرض، وتهيئتها للزراعة، واستخراج خيراتها من باطنها.
{ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } أى: حرثوا الأرض وشقوا باطنها، وعمروها عمارة أكثر من عمارة أهل مكة لها، لأن أولئك الأقوام السابقين كانوا أقوى من كفار مكة، وكانوا أكثر دراية بعمارة الأرض.
وهؤلاء الأقوام السابقون: { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أى: بالمعجزات الواضحات، وبالحجج الساطعات، ولكن هؤلاء الأقوام كذبوا رسهلم، فأهلكهم الله - تعالى - { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أى: فما كان الله - تعالى - من شأنه أن يعذبهم بدون ذنب.
{ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث ارتكبوا من الكفر والمعاصى ما كان سببا فى هلاكهم.
ثم بين - سبحانه - المصير السيئ الذى حل بهؤلاء الكافرين فقال: { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ }.
ولفظ "عاقبة" قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى - بفتح التاء - على أنه خبر "كان" قدم على اسمها، وهو لفظ "السوأى" الذى هو تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن. وجرد الفعل "كان" من التاء مع أن السوأى مؤنث، لأن التأنيث غير حقيقى.
فيكون المعنى: ثم كانت العقوبة السيئة وهى العذاب فى جهنم، عاقبة الذين عملوا فى دنياهم الأعمال السيئات.
وقرأ الباقون برفع لفظ "عاقبة" على أنه اسم كان، وخبرها لفظ "السوأى" أى: ثم كانت عاقبة هؤلاء الكافرين الذين أساءوا فى دنياهم، أسوأ العقوبات، وأقبحها، أو كانت عاقبتهم العاقبة السوأى وهى الإِلقاء بهم فى النار وبئس القرار.
وقوله - سبحانه -: { أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } تعليل لما آل إليه أمرهم من عاقبة سيئة، أى: لأن كذبوا، أو بأن كذبوا بحذف حرف الجر.
أى؛ كانت عاقبتهم فى الآخرة أسوا العقوبات وأقبحها وهى العذاب فى جهنم، لأنهم فى الدنيا كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق نبينا صلى الله عليه وسلم وكانوا بها يستهزئون.
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على قدرته، وبين أحوال الناس وأقسامهم يوم القيامة، فقال - تعالى -: { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ....فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }.