التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
١٢
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
١٣
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
١٤
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
١٦
يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
-لقمان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال ابن كثير -رحمه الله -: اختلف السلف فى لقمان، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا.
وعن ابن عباس وغيره: كان لقمان عبدا حبشا نجارا..
قال له مولاه: اذبح لنا شاة وجئنى بأخبث ما فيها؟ فذبحها وجهاءه بلسانها وقلبها. ثم قال له مرة ثانية: اذبح لنا شاة وجئنى بأحسن ما فيها؟ فذبحها وجاءه - أيضاً بقلبها ولسانها، فقال له مولاه ما هذا؟ فقال لقمان: إنه ليس من شئ أطيب منهما إذا طابا، وليس من شئ أخبث منها إذا خبثا.
وقال له رجل: ألست عبد فلان؟ فما الذى بلغ بك ما أرى من الحكمة؟ فقال لقمان: قدر الله وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وتركى مالا يعنينى.
ومن أقواله لابنه: يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة، يأتك الربح من غير بضاعة. يا بنى، لا تكن أعجز من هذا الديك الذى يصوت بالأسحار، وأنت نائم على فراشك، با بنى، اعتزل الشر كما يعتزلك، فإن الشر للشر خلق.
يا بنى، عليك بمجالس العلماء، وبسماع كلام الحكماء، فإن الله - تعالى - يحيى القلب الميت بنور الحكمة.
يا بنى، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها، واستقبلت الآخرة، ودار أنت إليها تسير، أقرب من دار أنت عنها ترتحل...
وقال الآلوسى ما ملخصه: ولقمان: اسم أعجمى لا عربى وهو ابن باعوراء. قيل: كان فى زمان داود - عليه السلام - وقيل: كان زمانه بين عيسى وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام -.
ثم قال الآلوسى: وإنى اختار أنه كان رجلا صالحا حكيما، ولم يكن نبيا.
وقوله - سبحانه -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ... } كلام مستانف مسوق لإِبطال الإِشراك بالله - تعالى - عن طرق النقل، بعد بيان إبطاله عن طريق العقل، فى قوله - سبحانه - قبل ذلك:
{ { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ... } }. والحكمة: اكتساب العلم النافع والعمل به. و هى: العقل والفهم. أو هى الإِصابة فى القول والعمل.
والمعنى: والله لقد أعطينا - بفضلنا وإحساننا - عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به.
وقوله - سبحانه - { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة. أى: أتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكى يزيدك منها.
قال الشوكانى: قوله: { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } أن هى المفسرة: لأن فى إيتاء الحكمة معنى القول. وقيل التقدير: قلنا له أن اشكر لى.. وقيل: بأن اشكر لى فشكر، فكان حكيما بشكره.
والشكر لله: الثناء عليه فى مقابلة النعمة - واستعمالها فيما خلقت له -، وطاعته فيما أمر به.
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال: { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }.
أى: ومن يشكر الله - تعالى - على نعمه، فإن نفع شكره إنما يعود إليه، ومن جحد نعم الله - تعالى - واستحب الكفر على الإِيمان، فالله - تعالى - غنى عنه وعن غيره، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإِنعامه عليهم بالنعم التى لا تعد ولا تحصى: فحميد بمعنى محمود.
فالجملة الكريمة المقصود بها، بيان غنى الله - تعالى - عن خلقه، وعدم انتفاعه بطاعتهم، لأن منفعتها راجعة إليهم، وعدم تضرره بمعصيتهم. وإنما ضرر ذلك يعود عليهم. وعبر - سبحانه - فى جانب الشكر بالفعل المضارع، للإِشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله - تعالى -، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت، عادوا إلى طاعته - سبحانه - وشكره.
وعبر فى جانب الكفر بالفعل الماضى، للإِشعار بأنه لا يصح ولا ينبغى من أى عاقل، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما، وأن يجعله فى خبر كان.
وجواب الشرط محذوف، وقد قام مقامه قوله - تعالى -: { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والتقدير: ومن كفر فضرر كفره راجع إليه. لأن الله - تعالى - غنى حميد.
ثم حكى - سبحانه - ما قاله لقمان لابنه على سبيل النصيحة والإِرشاد فقال - تعالى - { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.
وقوله { يَعِظُهُ } من الوعظ، وهو الزجر المقترن بالتخويف. وقيل: هو التذكير بوجوه الخير بأسلوب يرق له القلب.
قالوا: واسم ابنه "ثاران" أو "ماثان" أى: واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتنتفع، وقت أن قال لقمان لابنه وهو يعظه، ويرشده إلى وجوه الخير بألطف عبارة، يا نبى { لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } - تعالى - لا فى عبادتك ولا فى قولك، ولا فى عملك، بل أخلص كل ذلك لخالقكم - عز وجل -.
وفى ندائه بلفظ { يٰبُنَيَّ } إشفاق عليه. ومحبة له، فالمراد بالتصغير إظهار الحنو عليه، والحرص على منفعته.
قيل: وكان ابنه كافرا فما زال يعظه حتى أسلم. وقيل: بل كان مسلما، والنهى عن الشرك المقصود به، المدوامة على ما هو عليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين.
وجملة { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } تعليل للنهى. أى: يا بنى حذار أن تشرك بالله فى قولك أو فعلك، إن الشرك بالله - تعالى - لظلم عظيم، لأنه وضع للأمور فى غير موضعها الصحيح، وتسوية فى العبادة بين الخالق والمخلوق.
وقوله - تعالى -: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ.. } كلام مستأنف، جئ به على سبيل الاعتراض فى أثناء وصية لقمان لابنه، لبيان سمو منزلة الوالدين، ولأن القرآن كثيرا ما يقرن بين الأمر بوحدانية الله - تعالى، والأمر بالإِحسان إلى الوالدين.
ومن ذلك قوله - تعالى :
{ { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } }. وقوله - عز وجل -: { { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً.. } أى: أمرنا كل إنسان أن يكون بارا بأبويه، وأن يحسن إليهما، وأن يطيع أمرهما فى المعروف.
ثم بين - سبحانه - ما بذلته الأم من جهد يوجب الإِحسان إليها فقال: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أى: حملته أمه فى بطنها وهى تزداد فى كل يوم ضعفا على ضعف، بسبب زيادة وزنه، وكبر حجمه، وتعرضها لألوان من التعب خلال حمله ووضعه.
والوهن: الضعف. يقال: وهن فلان يهن وهنا: إذا ضعف. ولفظ "وهنا" حال من أمه بتقدير مضاف. أى: حملته أمه ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال. أى: تهن وهنا. وقوله: { عَلَىٰ وَهْنٍ } متعلق بمحذوف صفة للمصدر. أى: وهنا كائنا على وهن.
وقوله: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } بيان لمدة إرضاعه. والفصال: الفطام عن الرضاع. أى: وفطام المولود عن الرضاعة يتم بانقضاء عامين من ولادته، كما قال - تعالى -:
{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ... } }. وهاتان الجملتان { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } جاءتا بعد الوصية بالوالدين عموما، تأكيدا لحق الأم، وبيانا لما تبذله من جهد شاق فى سبيل أولادها، تستحق من أجله كل رعاية وتكريم وإحسان.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فقوله: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟
قلت: لما وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب فى حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بحقها العظيم مفردا، ومن ثم
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: ثم أباك" .
وقوله - سبحانه -: { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } بيان لما تستلزمه الوصية بالوالدين أى: وصينا الإِنسان بوالديه حسنا، وقلنا له: اشكر لخالقكم فضله عليك، بأن تخلص له العبادة والطاعة، واشكر لوالديك ما تحملاه من أجلك من تعب، بأن تحسن إليهما، واعلم أن مصيرك إلى خالقك - عز وجل - وسيحاسبك على أعمالك، وسيجازيك عليها بما تستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم بين - سبحانه - حدود الطاعة للوالدين فقال: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا }..
والجملة الكريمة معطوفة على قوله { وَوَصَّيْنَا... } بإضمار القول. أى: ووصينا الإِنسان بوالديه. وقلنا له: { وَإِن جَاهَدَاكَ } أى: وإن حملاك { عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي } فى العبادة أو الطاعة، { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فى ذلك، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
وجملة { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } لبيان الواقع، فلا مفهوم لها، إذ ليس هناك من إله يعلم سوى الله - عز وجل -.
ثم أمر - سبحانه - بمصاحبتهما بالمعروف حتى مع كفرهما فقال: { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً }.
أى: إن حملاك على الشرك. فلا تطعهما، ومع ذلك فصاحبهما فى الأمور الدنيوية التى لا تتعلق بالدين مصاحبة كريمة حسنة، يرتضيها الشرع، وتقضيها مكارم الأخلاق.
وقوله { مَعْرُوفاً } صفة لمصدر محذوف. أى: صحابا معروفا. أو منصوب بنزع الخافض. أى: بالمعروف.
ثم أرشد - سبحانه - إلى وجوب اتباع أهل الحق فقال: { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ.. }. أى: واتبع - أيها العاقل طريق الصالحين من عبادى، الذين رجعوا إلي بالتوبة والإِنابة والطاعة والإِخلاص.
{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } جميعا يوم القيامة - أيها الناس - { فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فى الدنيا، وأجازى كل إنسان على حسب عمله:
{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } }. قال القرطبى ما ملخصه: وهاتان الآيتان نزلتا فى شأن سعد بن أبى وقاص لما أسلم، وأن أمه حلفت أن لا تأكل طعاما حتى تموت.. وفيهما دليل على صلة الأبوين الكافرين، بما أمكن من المال إن كانا فقيرين.. "وقد قالت أسماء بنت أبى بكر الصديق، للنبى صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها خالتها وقيل: أمها من الراضعة: يا رسول الله، إن أمى قدمت على وهى راغبة أفاصلها؟ قال: نعم" وراغبة قيل معناه: عن الإِسلام، أو راغبة فى الصلة.
ثم ذكر - سبحانه - بقية الوصايا التى أوصى بها لقمان ابنه فقال: { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ }..
والضمير فى قوله: { إِنَّهَآ } يعود إلى الفعلة التى يفعلها من خير أو شر. و { تَكُ } مجزوم بسكون النون المحذوفة، وهو فعل الشرط. والجواب: { يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } والمثقال: أقل ما يوزن به الشئ. والخردل: فى غاية الصغر الدقة.
والمعنى: يا بنى إن ما تفعله من حسنة أو سيئة، سواء أكان فى نهاية القلة والصغر، كمثال حبة من خردل، أم كان هذا الشئ القليل مخبوءا فى صخرة من الصخور الملقاة فى فجاد الأرض، أم كان فى السماوات أم فى الأرض، فإن الله - تعالى - يعلمه ويحضره ويجازى عليه { إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - لطيف خبير أى: محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها، عظيمها وصغيرها.
فالمقصود من الآية الكريمة، غرس الهيبة والخشية والمراقبة لله - تعالى - سبحانه - لا يخفى عليه شئ فى هذا الكون، مهما دق وقل وتخفى فى أعماق الأرض أو السماء.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } }. ثم أمره بالمحافظة على الصلاة وبالأمر بالمعروف، وبالنهى عن المنكر وبالصبر على الأذى، فقال: { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أى: واظب على أدائها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين.
{ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ } أى بكل ما حض الشرع على قوله أو فعله { وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } أى: عن كل ما نهى الشرع عن قوله أو فعله.
{ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } من الأذى، فإن الحياة مليئة بالشدائد والمحن والراحة إنما هى فى الجنة فقط.
واسم الإِشارة فى قوله: { أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } يعود إلى الطاعات المذكورة قبله.
وعزم الأمور: أعاليها ومكارمها. أو المراد بها ما أوجبه الله - تعالى - على الإِنسان.
قال صاحب الكشاف: { إِنَّ ذَلِكَ } مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب وإلزام.. ومنه الحديث:
"إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه" ومنه عزمات الملوك، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده، عزمت عليك إلا فعلت كذا. فإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله، ولا مندوحة فى تركه.
وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورا بها فى سائر الأمم، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها.
ثم نهاه عن التكبر والغرور والتعالى على الناس فقال: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ.. }.
والصعر فى الأصل: مرض يصب البعير فيجعله معوج العنق، والمراد به هنا، التكبر واحتقار الناس، ومنه قول الشاعر:

وكنا إذا الجبَّار صعر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

أى: ولا تمل صفحة وجهك عن الناس، ولا تتعالى عليهم كما يفعل المتكبرون والمغرورون، بل كن هينا لينا متواضعا، كما هو شأن العقلاء..
{ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } أى: ولا تمش فى الأرض مشية المختالين المعجبين بأنفسهم. و { مَرَحاً } مصدر وقع موقع الحال على سبيل المبالغة، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف. أى: تمرح مرحا. والجملة فى موضع الحال. أو مفعول لأجله. أى: من أجل المرح.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } تعليل لنهى. والمختال: المتكبر الذى يختال فى مشيته، ومنه قولهم: فلان يمشى الخيلاء، أى يمشى مشية المغرور المعجب بنفسه.
والفخور: المتباهى على الناس بماله أو جاهة أو منصبه.. يقال فخر فلان - كمنع - فهو فاخر وفخور، إذا تفاخر بما عنده على الناس، على سبيل التطاول عليهم، والتنقيص من شأنهم.
أى: إن الله - تعالى - لا يحب من كان متكبرا على الناس، متفاخرا بماله أو جاهه.
ثم أمر بالقصد والاعتدال فى كل أموره فقال: { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أى وكن معتدلا فى مشيك، بحيث لا تطبئ ولا تسرع. من القصد وهو التوسط فى الأمور.
{ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } واخفض من صوتك فلا ترفعه إلا إذا استدعى الأمر رفعه، فإن غض الصوت عند المحادثة فيه أدب وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته.
وكان أهل الجاهلية يتفاخرون بجهارة الصوت وارتفاعه، فنهى المؤمنون عن ذلك، ومدح - سبحانه - الذين يخفضون أصواتهم فى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } }. وقوله - تعالى - { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } تعليل للأمر بخفض الصوت، وللنهى عن رفعه بدون موجب.
أى: إن أقبح الأصوت وأبشعها لهو صوت الحمير، فالجملة الكريمة حض على غض الصوت بأبلغ وجه وآكده، حيث شبه - سبحانه الرافعين لأصواتهم فى غير حاجة إلى ذلك، بأصوات الحمير التى هى مثار السخرية مع النفور منها.
وهكذا نجد أن لقمان قد أوصى ابنه بجملة من الوصايا السامية النافعة، فقد أمره - أولا - بإخلاص العبادة لله - تعالى - ثم غرس فى قلبه الخوف من الله - عز وجل -، ثم حضه على إقامة الصلاة، وعلى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وعلى الصبر على الأذى، ثم نهاه عن الغرور والتكبر والافتخار، وعن رفع الصوت بدون مقتض لذلك. وبتفيذ هذه الوصايا، يسعد الأفراد، وترقى المجتمعات.
ثم ذكر - سبحانه - بعض النعم التى أنعم بها على الناس، ودعا المنحرفين عن الحق إلى ترك المجادلة بالباطل، وإلى مخالفة الشيطان، فقال - تعالى -: { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ...عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ }.