التفاسير

< >
عرض

وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
١٠
قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١١
وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
١٢
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٣
فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٤
-السجدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: قوله - تعالى -: { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } هذا قول منكرى البعث أى: هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا. وأصله من قول العرب: ضل الماء فى اللبن إذا ذهب، والعرب تقول للشئ غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره: قد ضل..".
أى: وقال الكافرون على سبيل الإِنكار ليوم القيامة وما فيه من حساب أئذا صارت أجسادنا كالتراب واختلطت به، أنعاد إلى الحياة مرة أخرى، ونخلق خلقاً جديداً...؟
وقوله - سبحانه -: { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } إضراب وانتقال من حكاية كفرهم بالبعث والحساب إلى حكاية ما هو أشنع من ذلك وهو كفرهم بلقاء الله - تعالى - الذى خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم... أى: بل هم لانطماس بصائرهم، واستيلاء العناد والجهل عليهم، بلقاء ربهم يوم القيامة، كافرون جاحدون، لأنهم قد استبعدوا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم، مع أن الله - تعالى - قد أوجدهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن مردهم إليه لا محالة بعد أن يقبض ملك الموت أرواحهم فقال: { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }.
وقوله { يَتَوَفَّاكُم } من التوفى. وأصله أخذ الشئ وافيا تاما. يقال: توفاه الله، أى: استوفى روحه وقبضها، وتوفيت مالى بمعنى استوفيته والمراد بملك الموت: عزرائيل.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - فى الرد على هؤلاء الجاحدين: سيتولى قبض أرواحكم عند انتهاء آجالكم ملك الموت الذى كلفه الله - تعالى - بذلك ثم إلى ربكم ترجعون، فيجازيكم بما تستحقونه من عقاب، بسبب كفرهم وجحودكم.
وأسند - سبحانه - هنا التوفى إلى ملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح. وأسنده إلى الملائكة فى قوله - تعالى -
{ { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } لأنهم أعوان ملك الموت الذين كلفهم الله بذلك.
وأسنده - سبحانه - إلى ذاته فى قوله:
{ { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } لأن كل شئ كائنا ما كان، لا يكون إلا بقضائه وقدره.
ثم صور - سبحانه - أحوال هؤلاء الكافرين، عندما يقفون للحاسب، تصويراً مرعباً مخيفاً فقال: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ }.
وجواب "لو" محذوف، والتقدير: لرأيت شيئاً تقشعر من هوله الأبدان.
وقوله: { نَاكِسُواْ } من النكس، وهو قلب الشئ على راسه كالتنكيس.. وفعله من باب نصر - والخطاب يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له.
أى: ولو ترى - أيها الرسول الكريم - حال أولئك المجرمين الذين أنكروا البعث والجزاء، وهم يقفون أمام خالقهم بذلة وخزى، لحسابهم على أعمالهم.. لو ترى ذلك لرأيت شيئاً ترتعد له الفرائص، وتهتز منه القلوب.
وقوله: { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } حكاية لما يقولونه فى هذا الموقف العصيب. أى: يقولونه بذلة وندم: يا ربنا نحن الآن نبصر مصيرنا، ونسمع قولك ونندم على ما كنا فيه من كفر وضلال، { فَٱرْجِعْنَا } إلى الدنيا، لكى { نَعْمَلْ } عملاً { صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } الآن بأن ما جاءنا به رسولك هو الحق، وأن البعث حق. وان الجزاء حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق.
ولكن هذا الإِيقان والاعتراف منهم، قد جاء فى غير أوانه، ولذا لا يقبله - سبحانه - منهم، ولذا عقب - سبحانه - على ما قالوه بقوله: { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا... }. أى: ولو شئنا أن نؤتى كل نفس رشدها وهداها وتوفيقها إلى الإِيمان، لفعلنا، لأن إرادتنا نافذة، وقدرتنا لا يعجزها شئ.
{ وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } آى: ولكن ثبت وتحقق قولى.
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ } أى من الجن وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار.
ومن { ٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } بسبب فسوقهم عن أمرنا، وتكذيبهم لرسلنا.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها شئ، إلا أن حكمته - سبحانه - قد اقتضت أن الذين سبق فى علمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهداية، لسوء استعدادهم، يكون مصيرهم إلى النار، وأما الذين آثروا الهداية على الضلالة لنقاء نفوسهم، وكمال استعدادهم، فيكون مصيرهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
كما أن حكمته - سبحانه - قد اقتضت أن يميز الإِنسان على غيره، بأن يجعل له طبيعة خاصة يملك معها اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال. كما قال - تعالى - { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }.
ثم بين - سبحانه - ما يقال لهؤلاء المجرمين عندما يلقى بهم فى جهنم فقال - تعالى -: { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
والذوق حقيقة إدراك المطعومات. والأصل فيه أن يكون فى أمر مرغوب فى ذوقه وطلبه. والتعبير به هنا عن ذوق العذاب من باب التهكم بهم.
والفاء فى قوله: { فَذُوقُواْ } لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله والباء للسببية. والمراد بالنسيان لازمه، وهو الترك والإِهمال.
أى: ويقال لهؤلاء المجرمين عندما يلقى بهم فى النار: ذوقوا لهيبها وسعيرها بسبب نسيانكم وإهمالكم وجحودكم ليوم القيامة وما فيه من حساب. وإننا من جانبنا قد أهملناكم وتركناكم. بسبب إصراركم على كفركم، وذوقوا العذاب الذى أنتم مخلدون فيه بسبب أعمالكم القبيحة فى الدنيا "جزاء وفاقا".
وكرر - سبحانه - لفظ { ذُوقُـواْ } على سبيل التأكيد، وزيادة التقريع والتأنيب.
ثم تترك السورة الكريمة هؤلاء المجرمين يذوقون العذاب، وتنتقل إلى الحديث عن مشهد آخر، عن مشهد يشرح النفوس، ويبهج القلوب، إنه مشهد المؤمنين الصادقين، وما أعد الله - تعالى - من ثواب قال - تعالى -: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا...بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.