التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ
١٨
أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٩
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢٠
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢١
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ
٢٢
-السجدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والاستفهام فى قوله: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً.. } للإِنكار، والفسوق: الخروج عن طاعة الله.
أى: أفمن كان فى هذه الدنيا مؤمناً بالله حق الإِيمان، كمن كان فيها فاسقاً وخارجاً عن طاعة الله - تعالى - وعن دينه الذى ارتضاه لعباده؟
كلا، إنهم لا يستوون لا فى سلوكهم وأعمالهم، ولا فى جزائهم الدنيوى أو الأخروى.
وقد ذكروا أن هذه الآية نزلت فى شأن الوليد بن عقبة، وعلى بن أبى طالب - رضى الله عنه -، حيث قال الوليد لعلى: أنا أبسط منك لساناً، وأحد سنانا، وأملأ فى الكتيبة جسداً، فقال له على: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت هذه الآية.
ثم فصل - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة الفاسقين، فقال: { أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان { وَعَمِلُواْ } الأعمال { ٱلصَّالِحَاتِ }.
{ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } أى: فلهم الجنات التى يأوون إليها، ويسكنون فيها { نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والنزل: أصله ما يهيَّأ للضيف النازل من الطعام والشراب والصلة، ثم عمم فى كل عطاء. أى: فلهم جنات المأوى ينزلون فيها نزولاً مصحوباً بالتكريم والتشريف جزاء أعمالهم الصالحة التى عملوها فى الدنيا.
{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ } أى: خرجوا عن طاعتنا، وعن دعوة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
{ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } أى: فمنزلتهم ومسكنهم ومستقرهم النار وبئس القرار.
{ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ } هرباً من لهيبها وسعيرها وعذابها.
{ أُعِيدُواْ فِيهَا } مرغمين مكرهين، وردوا إليها مهانين مستذلين.
{ وَقِيلَ لَهُمْ } على سبيل الزجر والتأنيب وزيادة الحسرة فى قلوبهم.
{ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } فى الدنيا، وتستهزئون بمن ينذركم به، ويخوفكم منه.
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ } أى الأهون والأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا، عن طريق ما ننزله بهم من أمراض وأسقام ومصائب متنوعة.
{ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } أى: الاشد والأعظم والأبقى، وهو عذاب الآخرة.
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عما هم فيه من شرك وكفر وفسوق وعصيان.
ثم بين - سبحانه - حال من يدعى إلى الهدى فيعرض عنه، فقال: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ }.
أى: لا أحد أشد ظلماً وكفراً ممن ذكره المذكر بالآيات الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، وعلى أن دين الإِسلام هو الحق، ثم أعرض عنها جحوداً وعناداً.
{ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } أى: إنَّا من أهل الإِجرام والجحود لآياتنا منتقمون انتقاماً يذلهم ويهينهم.
قال صاحب الكشاف: "ثم" فى قوله { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } للاستبعاد.
والمعنى: أن الإِعراض عن مثل آيات الله، فى وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد فى العقل والعدل. كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها، استبعاداً لتركه الانتهاز. ومنه "ثم" فى بيت الحماسة:

لا يشكف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها.
فإن قلت: هلا قيل: إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالم، ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دل على إصابة الأظلم بالنصيب والأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الإِفادة.
ثم أشارت السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - من نعم. وما منحه للصالحين من قومه من منن، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ...فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.