التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً
٣٦
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٣٧
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً
٣٨
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٣٩
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٤٠
-الأحزاب

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى -: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } روايات منها: "أنها نزلت فى زينب بنت جحش - رضى الله عنها - خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد ابن حارثة فاستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبا، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وفى رواية أنها قالت: يا رسول الله، لست بنكاحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل فانكحيه فقالت: يا رسول الله، أؤامر فى نفسى؟ فبينما هما يتحادثان، أنزل الله - تعالى هذه الآية. فقالت: يا رسول الله، قد رضيته لى زوجا؟ قال: نعم قالت: إذا لا أعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجته نفسى"
.
وذكر بعضهم أنها نزلت فى أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، وكانت أول من هاجر من النساء.. يعنى بعد صلح الحديبية، فوهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم، فزوجها من مولاه زيد بن حارثة، بعد فراقه لزينب فسخطت هى وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد.
قال ابن كثير: هذه الاية عامة فى جميع الأمور. وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشئ، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأى ولا قول، كما قال - تعالى -:
{ { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } }. وفى الحديث الشريف: "والذى نفسى بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" .
والمعنى: لا يصح ولا يحل لأى مؤمن ولا لأية مؤمنة { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } أى: إذا أراد الله ورسوله أمرا. من الأمور.
وقال - سبحانه -: { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } للإِشعار، بأن ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمرا لله - تعالى - لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
وقوله: { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } أى: لا يصح لمؤمن أو مؤمنة إذا أراد الله ورسوله أمرا، أن يختاروا ما يخالف ذلك، بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره صلى الله عليه وسلم وأن يجعلوا رأيهم تابعا لرأيه فى كل شئ.
وكلمة الخِيرة: مصدر من تخيَّر، كالطِّيرَة مصدر من تَطَيَّر. وقوله: { مِنْ أَمْرِهِمْ } متعلق بها، أو بمحذوف وقع حالا منها.
وجاء الضمير فى قوله { لَهُمُ } وفى قوله { مِنْ أَمْرِهِمْ } بصيغة الجمع: رعاية للمعنى إذ أن لفظى مؤمن ومؤمنة وقعا فى سياق النفى، فيعمان كل مؤمن وكل مؤمنة.
وقوله - سبحانه -: { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } بيان لسوء عاقبة من يخالف أمر الله ورسوله.
أى: ومن يعص الله ورسوله فى أمر من الأمور، فقد ضل عن الحق والصواب ضلالا واضحا بينا.
ثم ذكر - سبحانه - قصة زواج النبى صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب بنت جحش، وما ترتب على هذا الزواج من هدم لعادات كانت متأصلة فى الجاهلية فقال - تعالى -: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ.. } أى: واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن قلت للذى أنعم الله - تعالى - عليه بنعمة الإِيمان، وهو زيد بن حارثة - رضى الله عنه -.
وأنعمت عليه، بنعمة العتق، والحرية، وحسن التربية، والمحبة، والإِكرام..
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } أى: اذكر وقت قولك له: أمسك عليك زوجك زينب بنت جحش، فلا تطلقها، واتق الله فى أمرها، واصبر على ما بدر منها فى حقك..
وكان زيد - رضى الله عنه - قد اشتكى للنبى صلى الله عليه وسلم من تطاولها عليه، وافتخارها بحسبها ونسبها، وتخشينها له القول، وقال: يا رسول الله، إنى أريد أن أطلقها.
وقوله - تعالى -: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } معطوف على { تَقُولُ }. أى: تقول له ذلك وتخفى فى نفسك الشئ الذى أظهره الله - تعالى - لك، وهو إلهامك بأن زيدا سيطلق زينب، وأنت ستتزوجها بأمر الله - عز جل -.
قال الآلوسى: والمراد بالموصول { مَّا } عل ما أخرج الحكيم الترمذى وغيره عن على ابن الحسين ما أوحى الله - تعالى - به إليه من أن زينب سيطلقها زيد. ويتزوجها هو صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين، كالزهرى، وبكر بن العلاء، والقشيرى، والقاضى أبى بكر بن العربى، وغيرهم.
وقال بعض العلماء ما ملخصه: قوله - تعالى -: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } جملة: الله مبدية صلة الموصول الذى هو { مَا }. وما أبداه - سبحانه - هو زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب، وذلك فى قوله - تعالى -: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } وهذا هو التحقيق فى معنى الآية، الذى دل عليه القرآن، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم.
وبه تعلم أن ما قاله بعض المفسرين، من أن ما أخفاه فى نفسه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله - تعالى -، وهو وقوع زينب فى قلبه صلى الله عليه وسلم ومحبته لها، وهى زوجة لزيد، وأنها سمعته يقول عندما رآها: سبحان مقلب القلوب.. إلى آخر ما قالوا... كله لا صحة له...
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: ذكر ابن جرير وابن أبى حاتم - وغيرهما - هاهنا آثارا عن بعض السلف، أحببنا أن نضرب عنها صفحا، لعدم صحتها. فلا نوردها..
هذا، ولفضيلة شيخنا الجليل الدكتور أحمد السيد الكومى رأى فى معنى هذه الجملة الكريمة، وهو أن ما أخفاه الرسول فى نفسه: هو علمه بإصرار زيد على طلاقه لزينب، لكثرة تفاخرها عليه، وسماعه منها ما يكرهه. وما لا يستطيع معه الصبر على معاشرتها.
وما أبداه الله - تعالى -: هو علم الناس بحال زيد معها، ومعرفتهم بأن زينب تخشن له القول، وتسمعه ما يكره، وتفخر عليه بنسبها..
فيكون المعنى: تقول للذى أنعم الله عليه، وأنعمت عليه، أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفى فى نفسك أن زيدا لن يستطيع الصبر على معاشرة زوجه زينب لوجود التنافر بينهما.. مع أن الله - تعالى - قد أظهر ذلك، عن طريق كثرة شكوى زيد منها، وإعلانه أنه حريص على طلاقها، ومعرفة كثير من الناس بهذه الحقيقة..
ومما يؤيد هذا الرأى أنه لم يرد لا فى الكتاب ولا فى السنة ما يدل دلالة صريحة على أن الله قد أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيدا سيطلق زينب، وأنه صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، بكل ما ورد فى ذلك هى تلك الرواية التى سبق أن ذكرناها عن على بن الحسين - رضى الله عنهما -.
قال صاحب الظلال: وهذا الذى أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم فى نفسه، وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. والجهر به فى حينه مهما كانت العواقب التى يتوقعها عن إعلانه. ولكنه صلى الله عليه وسلم كان أمام إلهام يجده فى نفسه، ويتوجس فى الوقت ذاته من مواجهته ومواجهة الناس به حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه فى النهاية. وهو لا يفكر لا هو لا زينب فيما سيكون بعد..
وهذه الأقوال جميعها تهدم هدما تاما كل الروايات التى رويت عن هذا الحادث، والى تشبث بها أعداء الإِسلام فى كل زمان ومكان، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات.
وقوله - سبحانه -: { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } معطوف على ما قبله، ومؤكد لمضمونه.
أى: تقول له ما قلت، وتخفى فى نفسك ما أظهره الله، وتخشى أن تواجه الناس بما ألهمك الله - تعالى - به من أمر زيد وزينب، مع أن الله - تعالى - أحق بالخشية من كل ما سواه.
فالجملة الكريمة عتاب رقيق من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم وإرشاد له إلى أفضل الطرق، وأحكم السبل، لمجابهة أمثال هذه الأمور، وحلها حلا سليما.
ثم بين - سبحانه - الحكمة من زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فقال: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }.
والوطر: الحاجة. وقضاء الوطر: بلوغ منتهى ما تريده النفس من الشئ، يقال: قضى فلان وطره من هذا الشئ: إذا أخذ اقصى حاجته منه.
والمراد هنا: أن زيدا قضى حاجته من زينب، ولم يبق عنده أدنى رغبة فيها، بل صارت رغبته العظمى فى مفارقتها.
أى: فلما قضى زيد حاجته من زينب، وطلقها، وانقضت عدتها، زوجناكها، أى: جعلناها زوجة لك، { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ } أو ضيق أو مشقة { فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } أى: فى الزواج من أزواج أدعيائهم، الذين تبنوهم { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أى: إذا طلق هؤلاء الأدعياء أزواجهم، وانقضت عدة هؤلاء الأزواج، فلا حرج على الذين سبق لهم تبنى هؤلاء الأدعياء أن يتزوجوا بنسائهم، ولهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
{ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أى: وكان ما يريده الله - تعالى - حاصلا لا محالة.
قال الإِمام ابن كثير: قوله: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا.. } أى: لما فرغ منها وفارقها زوجناكها، وكان الذى ولى تزويجها منه هو الله - عز وجل - بمعنى: أنه أوحى إليه أن يدخل بها بلا ولىّ ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر..
روى الإِمام أحمد عن أنس قال:
"لما انقضت عدة زينب - رضى الله عنها - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة اذهب فاذكرها على فانطلق حتى آتاها وهى تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت فى صدرى حتى ما أستطيع أن أنظر إليها. وجعلت أقول - وقد وليتها ظهرى، ونكصت على عقبى - يا زينب. أبشرى. أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربى - أى: أستشيره فى أمرى - فقامت إلى مسجدها. ونزول القرآن. وجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن" .
وروى البخارى عن أنس بن مالك، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجنى الله من فوق سبع سماوات...
وقال الإِمام الشوكانى: وقوله: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ }.
أى: فى التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا، كما كانت تفعله العرب، فإنهم كانوا يتبنون من يريدون.. وكانوا يعتقدون أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه، كما تحرم نساء أبنائهم على الحقيقة، والأدعياء: جمع دعى، وهو الذى يدعى ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة. فأخبرهم الله - تعالى - أن نساء الأدعياء حلال لهم - بعد انقضاء العدة - بخلاف الأبناء من الصلب، فإن نساءهم تحرم على الآباء بنفس العقد عليها...
وبعد أن بين - سبحانه - الحكمة من زواج النبى صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش، التى كانت قبل ذلك زوجة لزيد بن حارثة - الذى كان الرسول قد تبناه وأعتقه - بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة فى تقرير هذه الحكمة وتأكيدها، وإزالة كل ما علق بالأذهان بشأنها، فقال - تعالى -: { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ... }.
أى: ما كان على النبى صلى الله عليه وسلم من حرج أو لوم أو مؤاخذة، فى فعل ما أحله الله له، وقدره عليه، وأمره به من زواجه بزينب بعد أن طلقها ابنه بالتبنى زيد بن حارثة فقوله: { فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } أى: فيما قسمه له، وقدره عليه، مأخوذ من قولهم: فرض فلان لفلان كذا، أى: قدر له هذا الشئ وجعله حلالا له.
وقوله - تعالى -: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } زيادة فى تأكيد هذه الحكمة، وفى تقرير صحة ما فرضه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم.
أى: ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من زواجه بزينب بعد طلاقها من زيد، قد جعله الله - تعالى - سنة من سننه فى الأمم الماضية، وكان أمر الله - تعالى - قدرا مقدورا. أى: واقعا لا محالة.
والقدر: إيجاد الله - تعالى - للأشياء على قَدْرِ مخصوص حسبما تقتضى حكمته.
ويقابله القضاء: وهو الإِرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هى عليه. وقد يستعمل كل منهما بمعنى الآخر. والأظهر أن قدر الله - تعالى - هنا بمعنى قضائه.
ولفظ { مَّقْدُوراً } وصف جئ به للتأكيد، كما فى قولهم: ظل ظليل، وليل أليل، ثم مدح - سبحانه - هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يبلغون دعوته دون أن يخشوا أحدا سواه فقال: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } للذين يكلفهم - سبحانه - بتبليغها لهم. والموصول فى محل جر صفة للذين خلوا. أو منصوب على المدح.
{ وَيَخْشَوْنَهُ } أى: ويخافونه وحده { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } - عز وجل - فى كل ما يأتون وما يذرون، وما يقولون وما يفعلون.
{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } أى: وكفى بالله - تعالى - محاسبا لعباده على نيات قلوبهم وأفعالهم جوارحهم، وأقوال ألسنتهم.
ثم حدد - سبحانه - وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه بما هو أهله، فقال - تعالى -: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أى: لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أبا لأحد من رجالكم أبوة حقيقية، تترتب عليها آثارها وأحكامها من الإِرث، والنفقة والزواج... وزيد كذلك ليس ابنا له صلى الله عليه وسلم فزواجه صلى الله عليه وسلم بزينب التى طلقها زيد لا حرج فيه، ولا شبهة فى صحته، وقوله: { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } استدراك لبيان وظيفته وفضله.
أى: لم يكن صلى الله عليه وسلم أبا لأحدكم على سبيل الحقيقة، ولكنه كان رسولا من عند الله - تعالى - ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان وكان - أيضا - خاتم النبيين، بمعنى أنهم ختموا به، فلا نبى بعده، فهو كالخاتَم والطابَع لهم. ختم الله - تعالى - به الرسل والأنبياء، فلا رسول ولا نبى بعده إلى قيام الساعة.
قال القرطبى: قرأ الجمهور { وَخَاتَمَ } - بكسر التاء - بمعنى أنه ختمهم، أى: جاء آخرهم.
وقرأ عاصم { وخاتم } - بفتح التاء - بمعنى أنهم ختموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم.
وقيل: الخاتم والخاتم - بالفتح والكسر - لغتان، مثل طابع وطابع..
وقد روى الإِمام مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخولنها ويتعجبون منها ويقولون: ما أجمل هذه الدار، هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء" .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عددا من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون" .
ثم قال -رحمه الله - بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره: والأحاديث فى هذا كثيرة، فمن رحمة الله - تعالى - بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الحنيف له، وقد أخبر - تعالى - فى كتابه، وأخبر رسوله فى السنة المتواترة عنه، أنه لا نبى بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم...
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }.
أى: وكان - عز وجل - وما زال، هو العليم علما تاما بأحوال خلقه، وبما ينفعهم ويصلحهم، ولذا فقد شرع لكم ما أنتم فى حاجة إليه من تشريعات، واختار رسالة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لتكون خاتمة الرسالات، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالشكر والطاعة، ليزيدكم - سبحانه - من فضله وإحسانه.
ثم جاءت الآيات الكريمة بعد ذلك لتؤكد هذا المعنى وتقرره، فأمرت المؤمنين بالإِكثار من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه وتحميده وتكبيره - فقال - سبحانه -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ...لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً }.