التفاسير

< >
عرض

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥
-الأحزاب

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى ما ملخصه: قوله - تعالى - { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نزلت فى رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهرى، كان حفاظا لما يسمع، وكان يقول: لى قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر، ومعهم هذا الرجل، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه فى يده والأخرى فى رجله - من شدة الهلع -، فقال له أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال: انهزموا. فقال له: فما بال إحدى نعليك فى يدك والأخرى فى رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما فى رجلى. فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده.
وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم له قلبان، لأنه ربما كان فى شئ فنزع فى غيره نزعه ثم عاد إلى شأنه الأول، فأكذبهم الله بقوله: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }.
ويرى بعضهم: أن هذه الجملة الكريمة، مثل ضربه الله - تعالى - للمظاهر من امرأته، والمتبنى ولد غيره، تمهيدا لما بعده.
أى: كما أن الله - تعالى - لم يخلق للإِنسان قلبين فى جوفه، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له فى وقت واحد، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له فى زمن واحد.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: أى: ما جمع الله قلبين فى جوف، ولا زوجية وأمومة فى امرأة، ولا بنوة ودعوة فى رجل.. لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والزوجة ليست كذلك.
ولأن البنؤة أصالة فى النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير.
فإن قلت: أى فائدة فى ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة فى قوله - تعالى -:
{ { وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه، لأنه إذا سمع به، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإِنكار.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه.
يقال. ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها، إذا قال لها: أنت على كظهر أمى، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه.
وقد جاء الكلام عن الظهار، وعن حكمه، وعن كفارته، فى سورة المجادلة، فى قوله - تعالى -:
{ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } }. وقوله - سبحانه -: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } إبطال لعادة أخرى كانت موجودة، وهى عادة التبنى.
والأدعياء: جمع دعى. وهو الولد الذى يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية، ومنها حرمة زواج الأب بزوجه ابنه بالتبنى بعد طلاقها، ومنها التوارث فيما بينهما.
قال ابن كثير: وقوله: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفى، فإنها نزلت فى شأن زيد بن حارثة، مولى النبى صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، وكان يقال له زيد بن محمد. فأراد الله - تعالى - أن يقطع هذا الإِلحاق، وهذه النسبة بقوله: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }، كما قال فى أثناء السورة:
{ { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } }. واسم الإِشارة فى قوله: { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار، ومن إجراء التبنى على ولد الغير، وهو مبتدأ، وما بعده خبر.
أى: ذلكم الذى تزعمونه من تشبيه الزوجة بالأم فى التحريم، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع، ولا يسانده الحق.
قال ابن جرير: وقوله: { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يقول - تعالى ذكره - هذا القول، وهو قول الرجل لأمرأته: أنت على كظهر أمى، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه، إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، ولا يثبت بهذه الدعوة نسب الذى ادعيت بنوته، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها: أنت على كظهر أمى.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } أى: والله - تعالى - يقول الحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل، وهو - سبحانه - دونه غير يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذى يوصل إلى الخير والصلاح. وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التى ألفتموها. والتى أبطلها الله - تعالى - بحكمته، واتبعوا ما يأمركم به - سبحانه -.
ثم أرشدهم إلى الطريق السليمة فى معاملة الابن المتبنى فقال: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أى انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم، فإن هذا النسب هو أقسط وأعدل عند الله - تعالى -.
قال الآلوسى: أخرج الشيخان عن ابن عمر - رضى الله عنهما -
"أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد. حتى نزل القرآن: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } فقال صلى الله عليه وسلم أنت زيد بن حارثة بن شراحيل" .
وكان زيد قد أسر فى بعض الحروب، ثم بيع فى مكة، واشتراه حكيم بن حزام، ثم أهداه إلى عمته السيدة خديجة، ثم أهدته خديجة - رضى الله عنها - إلى النبى صلى الله عليه وسلم وصار الناس يقولون: زيد بن محمد حتى نزلت الآية.
وقوله - سبحانه -: { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } إرشاد إلى معاملة هؤلاء الأدعياء فى حالة عدم معرفة آبائهم.
أى: انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آباءهم الحقيقيين، فإن ذلك أعدل عند الله - تعالى -، وأشرف للآباء والأبناء، فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين لكى تنسبوهم إليهم، فهؤلاء الأدعياء هم إخوانكم فى الدين والعقيدة، وهو مواليكم، فقولوا لهم، يا أخى أو يا مولاى، واتركوا نسبتهم إلى غير آبائهم الشرعيين.
وفى الجملة الكريمة إشارة إلى ما كان عليه المجتمع الجاهلى من تخلخل فى العلاقات الجنسية، ومن اضطراب فى الأنساب، وقد عالج الإِسلام كل ذلك بإقامة الأسرة الفاضلة، المبنية على الطهر، والعفاف، ووضع الأمور فى مواضعها السليمة.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر اليسر ورفع الحرج فى تشريعاته فقال: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
أى: انسبوا - أيها المسلمون - الأبناء إلى آبائهم الشرعيين، فإن لم تعرفوا آباءهم فخاطبوهم ونادوهم بلفظ: يا أخى أو يا مولاى. ومع كل ذلك فمن رحمتنا بكم أننا لم نجعل عليكم جناحا أو إثما، فيما وقمتم فيه من خطأ غير مقصود بنسبتكم بعض الأبناء والأدعياء إلى غير آبائهم، ولكننا نؤاخذكم ونعاقبكم فيما تعمدته قلوبكم من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم.
و { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } - وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده.
هذا، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين: حرص شريعة الإِسلام على إعطاء كل ذى حق حقه، ومن مظاهر ذلك إبطال الظهار الذى كان يجعل المرأة محرمة على الرجل، ثم تبقى بعد ذلك معلقة، ولا هى مطلقة ففتزوج غير زوجها، ولا هى زوجة فتحل له فشرع الإِسلام كفارة الظهار إنصافا للمرأة، وحرصا على كرامتها.
ومن مظاهر ذلك - أيضا -: إبطال عادة التبنى، حتى ينتسب الأبناء إلى آبائهم الشرعيين، وحتى تصير العلاقات بين الآباء والأبناء قائمة على الأسس الحقيقية والواقعية.
ولقد حذر الإِسلام من دعوة الإِبن إلى غير أبيه تحذيرا شديدا. ونفر من ذلك.
قال القرطبى: جاء فى الحديث الصحيح
"عن سعد بن أبى وقاص وأبى بكرة، كلاهما قال: سَمعته أذناى ووعاه قلبى، محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام" وفى حديث أبى ذر أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر" .
ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلى الله عليه وسلم ونحو أزواجه، وما يجب للأقارب فيها بينهم، فقال - تعالى -: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ... }.