التفاسير

< >
عرض

لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٠
مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً
٦١
سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٦٢
يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً
٦٣
إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً
٦٤
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٦٥
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ
٦٦
وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ
٦٧
رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
٦٨
-الأحزاب

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمنافقون: جمع منافق، وهو الذى يظهر الإِسلام ويخفى الكفر.
والذين فى قلوبهم مرض: هم قوم ضعاف الإِيمان، قليلو الثبات على الحق.
والمرجفون فى المدينة: هم الذين ينشرون أخبار السوء عن المؤمنين ويلقون الأكاذيب الضارة بهم ويذيعونها بين الناس. وأصل الإِرجاف: التحريك الشديد للشئ، مأخوذ من الرجفة التى هى الزلزلة. ووصف به الأخبار الكاذبة، لكونها فى ذاتها متزلزلة غير ثابتة، أو لإِحداثها الاضطراب فى قلوب الناس.
وقد سار بعض المفسرين، على أن هذه الأوصاف الثلاثة، كل وصف منها لطائفة معينة، وسار آخرون على أن هذه الأوصاف لطائفة واحدة هى طائفة المنافقين، وأن العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات.
قال القرطبى: قوله: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ... } أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشئ واحد... والواو مقحمة كما فى قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة فى المزدحم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتبية.
وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة، وقوم يشككون المسلمين...
وقد سار صاحب الكشاف على أن هذه الأوصاف لطوائف متعددة من الفاسقين، فقال: { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قوم كان فيهم ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه..
{ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ } ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين.
والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عدائكم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التى تسوؤهم وتنوؤهم.
وقوله: { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } جواب القسم. أى: لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد، يقال: أغرى فلان فلانا بكذا، إذا حرضه على فعله.
وقوله: { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } معطوف على جواب القسم. أى: لنغرينك بهم ثم لا يبقون بعد ذلك مجاورين لك فيها إلا زمانا قليلا، يرتحلون بعده بعيدا عنكم، لكى تبتعدوا عن شرورهم.
وجاء العطف بثم فى قوله: { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ } للإِشارة إلى أن إجلاءهم عن المدينة نعمة عظيمة بالنسبة للمؤمنين، ونقمة كبيرة بالنسبة لهؤلاء المنافقين وأشباهههم. وقوله: { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ } أى: مطرودين من رحمة الله - تعالى - ومن فضله، أينما وجدوا وظفر بهم المؤمنون.
و { مَّلْعُونِينَ } منصوب على الحال من فاعل { يُجَاوِرُونَكَ } و { ثُقِفُوۤاْ } بمعنى وجدوا. تقول ثقفت الرجل فى الحرب أثقفه، إذا أدركته وظفرت به.
وقوله: { أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } بيان لما يحيق بهم من عقوبات عند الظفر بهم.
أى: هم ملعونون ومطرودون من رحمة الله بسبب سوء أفعالهم، فإذا ما أدركوا وظفر بهم، أخذوا أسارى أذلاء، وقتلوا تقتيلا شديدا، وهذا حكم الله - تعالى - فيهم حتى يقلعوا عن نفاقهم وإشاعتهم قالة السوء فى المؤمنين، وإيذائهم للمسلمين والمسلمات.
ثم بين - سبحانه - أن سنته قد اقتضت تأديب الفجار والفسقة حتى يقلعوا عن فجورهم وفسقهم فقال: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ.... } وقوله: { سُنَّةَ } منصوب على أنه مصدر مؤكد. أى: سن الله - تعالى - ذلك سنة، فى الأمم الماضة من قبلكم - أيها المؤمنون - بأن جعل تأديب الذين يسعون فى الأرض بالفساد، ويؤذون أهل الحق، سنة من سننه التى لا تتخلف.
{ وَلَن تَجِدَ } - أيها الرسول الكريم - { لِسُنَّةِ ٱللَّهِ } الماضية فى خلقه { تَبْدِيلاً } أو تحويلا، لقيامها على الإِرادة الحكيمة، والعدالة القويمة.
ثم بين - سبحانه - أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا هو فقال: { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }.
والسائلون هنا قيل: هم اليهود، وسؤالهم عنها كان بقصد التعنت والإِساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
أى: يسألك اليهود وأشباههم فى الكفر والنفاق عن وقت قيام الساعة، على سبيل التعنت والامتحان لك.
{ قُلْ } لهم - أيها الرسول الكريم - { إِنَّمَا } علم وقت قيامها عند الله - تعالى - وحده، دون أى أحد سواه.
{ وَمَا يُدْرِيكَ } أى: وما يعلمك { لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } أى. لعل قيامها وحصولها يتحقق فى وقت قريب، ولكن هذا الوقت مهما قرب لا يعلمه إلا علام الغيوب - سبحانه -.
ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
"بعثت أنا والساعة كهاتين" ويشير إلى إصبعيه السبابة والوسطى.
ثم بين - تعالى - ما أعده للكافرين من عقاب فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ } بأن طردهم من رحمته، وأبعدهم عن مغفرته.
{ وَأَعَدَّ لَهُمْ } فوق ذلك فى الآخرة { سَعِيراً } أى: نارا شديدة الاشتعال والاتقاد.
{ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى: خالدين فيها خلودا أبديا لا خروج لهم منها معه.
{ لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أى لا يجدون من يحول بينهم وبين الدخول فى هذه النار المسعرة، كما لا يجدون من يخلصهم من عذابها وسعيرها.
ثم بين - سبحانه - حسراتهم عندما يحل بهم العذاب فى الآخرة فقال: يوم تقلب وجوههم فى النار، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا.
و { يَوْمَ } ظرف لعدم الوجدان لمن يدافع عنهم أو ينصرهم أى: لا يجدون من يدفع عنهم العذاب: يوم تقلب وجوههم فى النار تارة إلى جهة، وتارة إلى جهة أخرى، كما يقلب اللحم عند شوائه.
وحينئذ يقولون على سبيل التحسر والتفجع: يا ليتنا أطعنا الله - تعالى - فيما أمرنا به، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من عند ربه.
قال صاحب الكشاف: وقوله: { تُقَلَّبُ } بمعنى تتقلب، ومعنى تقليبها: تصريفها فى الجهات، كما ترى البيضة تدور فى القدر إذا غلت، فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها، أو طرحها فى النار مقلوبة منكوسة.
وخصت الوجوه بالذكر، لأنه الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.
{ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ }، أى: وقال هؤلاء الكافرون - بعد هذا التحسر والتفجع - يا ربنا إنا أطعنا فى الدنيا { سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } أى: ملوكنا ورؤساءنا وزعماءنا، فجعلونا فى ضلال عن الصراط المستقيم، وعن السبيل الحق.
{ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } أى: يا ربنا أنزل بهؤلاء السادات والكبراء عذابا مضاعفا، بسبب ضلالهم فى أنفسهم، وبسبب إضلالهم لغيرهم.
{ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } أى واطردهم من رحمتك، وأبعدهم عن مغفرتك، إبعادا شديدا عظيما، فهم كانوا سببا لنا فى هذا العذاب المهين الذى نزل بنا.
وهكذا نرى الآيات الكريمة، تصور لنا أحوال الكافرين فى الآخرة هذا التصوير المؤثر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حى عن بينة.
وبعد أن فصلت السورة الكريمة ما فصلت من أحكام، وأرشدت إلى ما أرشدت من آداب، وقصت ما قصت من أحداث.. بعد كل ذلك وجهت فى أواخرها نداءين إلى المؤمنين، أمرتهم فيهما بتقوى الله - تعالى - وبالاقتداء بالأخيار من عباده، وباجتناب بسلوك الأشرار، كما ذكرتهم بثقل الأمانة التى رضوا بحلمها، وبحسن عاقبة الصالحين وسوء عاقبة المكذبين، قال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ....وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.