التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
٣٤
وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
٣٥
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ
٣٧
وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
٣٨
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٣٩
-سبأ

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب الكشاف عند تفسيره لقوله - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ... }: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد، والتكبر بذلك على المؤمنين.. وأنه - سبحانه - لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير، إلا قالوا له مثل ما قال أهل مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم..
والمعنى: وما أرسلنا فى قرية، من القرى { مِّن نَّذِيرٍ } ينذر أهلها بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم. { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أى: إلا قال أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها المتسعون فى النعم فيها، لمن جاءوا لإِنذارهم وهدايتهم إلى الحق.
{ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } من الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - { كَافِرُونَ } بما نحن عليه من شرك وتقليد للآباء مؤمنون.
فالآية الكريمة تحكى موقف المترفين فى كل أمة، من الرسل الذين جاءوا لهدايتهم، وأن هؤلاء المترفين فى كل زمان ومكان، كانوا أعداء للأنبياء وللمصلحين، لأن الترف من شأنه أن يفسد الفطرة، ويبعث على الغرور والتطاول، ويحول بين الإِنسان وبين التمسك بالفضائل والقيم العليا، ويهدى إلى الانغماس فى الرذائل والشهوات الدنيا.
ثم يحكى القرآن الكريم أن هؤلاء المترفين لم يكتفوا بإعلان كفرهم، وتكذيبهم للأنبياء والمصلحين، بل أضافوا إلى ذلك التبجح والتعالى على المؤمنين. فقال - تعالى -: { وَقَالُواْ } أى المترفون الذين أبطرتهم النعمة للمؤمنين الفقراء { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } منكم - أيها المؤمنون - إذ أموالنا أكثر من أموالكم، وأولادنا أكثر من أولادكم، ولولا أننا أفضل عند الله منكم، لما اعطانا. مالا يعطيكم...
فنحن نعيش حياتنا فى أمان واطمئنان { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } بشئ من العذاب الذى تعدوننا به لا فى الدنيا ولا فى الآخرة.
قال الامام ابن كثير عند تفسيره هذه الآية: افتخر المترفون - بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم، واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا فى الدنيا، ثم يعذبهم فى الآخرة، وهيهات لهم ذلك. قال - تعالى -:
{ { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } }. ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصحح لهؤلاء المترفين خطأهم، وأن يكشف عن جهلهم، وأن يبين لهم أن مسألة الغنى والفقر بيد الله - تعالى - وحده، وأن الثواب والعقاب لا يخضعان للغنى أو للفقر، وإنما يتبعان الإِيمان أو الكفر، فقال - تعالى - { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
وبسط الرزق: سعته وكثرته. وتقديره: تقليله وتضييقه.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاهلين { إِنَّ رَبِّي } وحده هو الذى { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } أن يبسطه له { وَيَقْدِرُ } أى: ويقتر الرزق ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه. والأمر فى كلتا الحالتين مرده إلى الله - تعالى - وحده، على حسب ما تقتضيه حكمته فى خلقه.
وربما يوسع رزق العاصى ويضيق رزق المطيع.أو العكس، وربما يوسع على شخص وقت وضيق عليه فى وقت آخر، ولا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب، لأن مناطهما الطاعة وعدمها.
{ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } هذه الحقيقة التى اقتضتها حكمة الله - تعالى - وإرادته، فزعموا أن بسط الرزق دليل الشرف والكرامة، وأن ضيق الرزق دليل الهوان والذل، ولم يدركوا - لجهلهم وانطماس بصائرهم - أن بسط الرزق قد يكون للاستدارج، وأن تضييقه قد يكون للابتلاء والاختبار، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه.
ثم زاد - سبحانه - هذه القضية توضيحا وتبيينا فقال: { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ }.
الزلفى: مصدر كالقربى، وانتصابه على المصدرية من معنى العامل. أى ليست كثرة أموالكم، ولا كثرة أولادكم بالتى من شأنها أن تقربكم إلينا قربى، لأن هذه الكثرة ليست دليل محبة منا لكم، ولا تكريم منا لكم، وإنما الذى يقربكم منا هو الإِيمان والعمل الصالح.
كما وضح - سبحانه - هذه الحقيقة فى قوله بعد ذلك: { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }.
أى: ليس الأمر كما زعمتم - أيها المترفون - من أن كثرة الأموال والأولاد ستنجيكم من العذاب، ولكن الحق والصدق أن الذى ينجيكم من ذلك ويقربكم منا، هو الإِيمان والعمل الصالح. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة لهم عند الله - تعالى - الجزاء الحسن المضاعف، وهم فى غرفات الجنات آمنون مطمئنون.
قال الشوكانى ما ملخصه: قوله: { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } هو استثناء منقطع فيكون محله النصب. أى: لكن من آمن وعمل صالحا.. والإِشارة بقوله: { فَأُوْلَـٰئِكَ } إلى { مَنْ } والجمع باعتبار المعنى. وهو مبتدأ. وخبره { لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ } أى: فأولئك يجازيهم الله الضعف، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. أو فأولئك لهم الجزاء المضاعف فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة..
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المصرين على كفرهم فقال: { وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }.
أى: والذين يسعون فى إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا، { مُعَاجِزِينَ }.
أى: زاعمين سبقهم لنا، وعدم قدرتنا عليهم { أُوْلَـٰئِكَ } الذين يفعلون ذلك { فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أى: فى عذاب جهنم مخلدون، حيث تحضرهم ملائكة العذاب بدون شفقة أو رحمة، وتلقى بهم فيها.
وقوله - سبحانه -: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } تأكيد وتقرير لتلك الحقيقة التى سبق الحديث عنها، وهى أن التوسع والتضييق فى الرزق بيد الله - تعالى - وحده.
والضمير فى قوله - تعالى - { لَهُ } يعود إلى الشخص الموسع عليه أو المضيق عليه فى رزقه. أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المترفين على سبيل التأكيد وإزالة ما هم عليه من جهل: إن ربى - عز وجل - يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيق هذا الرزق على ما يشاء أن يضيقه منهم، وليس فى ذلك ما يدل على السعادة أو الشقاوة، لأن هذه الأمور خاضعة لحكمته فى خلقه - سبحانه -.
{ وَمَآ أَنفَقْتُمْ } أيها المؤمنون { مِّن شَيْءٍ } فى سبيل الله - تعالى - وفى أوجه طاعته { فَهُوَ } - سبحانه - { يُخْلِفُهُ } أى: يعوضه لكم بما هو خير منه. يقال: فلان أخلق لفلان وأخلف عليه، إذا أعطاه العوض والبدل.
{ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } أى: وهو - سبحانه - خير رازق لعباده لأن كل رزق يصل إلى الناس إنما هو بتقديره وإرادته، وقد جرت سنته - سبحانه - أن يزيد الأسخياء من فضله وكرمه.
وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من يوم يصبح العباد فيه،إلا ملكان ينزلان، فيقول احدهما: اللهم اعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا" .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من شبهات المشركين، ومن أقوالهم الباطلة، وردت عليهم بما يزهق باطلهم، ويمحو شبهاتهم، لكى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
ثم بين - سبحانه - حال أولئك المشركين يوم القيامة، وكيف أن الملائكة يكذبونهم فى مزاعمهم، فقال - تعالى -: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً....كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ }.