التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
٤٦
قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٤٧
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٤٨
قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
٤٩
قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
٥٠
-سبأ

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { أَعِظُكُمْ } من الوعظ، وهو تذكير الغير بالخير والبر بكلام مؤثر رقيق يقال: وعظه يعظه وعظا وعظة، إذا أمره بالطاعة ووصاه بها.
وقوله { بِوَاحِدَةٍ } صفة لموصوف محذوف.
والتقدير: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين قالوا الكذب فى شأنك وفى شأن ما جئت به، قل لهم: إنما أعظكم وآمركم وأوصيكم بكلمة واحدة، أو بخصلة واحدة.
ثم فسر - سبحانه - هذه الكلمة بقوله: { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ }. والمراد بالقيام هنا: التشمير عن ساعد الجد، وتلقى ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقلب مفتوح. وعقل واع، ونفس خالية من التعصب والحقد والعكوف على التقليد.
و { مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } أى: متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، وهما منصوبان على الحال.
{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } بعد ذلك فى أمر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وفى أمر رسالته، وفى أمر ما جاء به من عند ربه، فعند ذلك ترون أنه على الحق، وأنه قد جاءكم بما يسعدكم.
فالآية الكريمة تأمرهم أن يفكر كل اثنين بموضوعية وإنصاف فى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يعرض كل واحد منهما حصيلة تفكيره على صاحبه، وأن يفكر كل واحد منهم على انفراد - أيضا فى شأن هذا الرسول، من غير تعصب وهوى.
وقدم الاثنين فى القيام على المنفرد، لأن تفكير الاثنين فى الأمور بإخلاص واجتهاد وتقدير، أجدى فى الوصول إلى الحق من تفكير الشخص الواحد ولم يأمرهم بأن يتفكروا فى جماعة، لأن العقلية الجماعية كثيرا ما تتبع الانفعال الطارئ. وقلما تتريث فى الحكم على الأمور.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها، أصبتم الحق، وتخلصتم من الباطل - وهى: أن تقوموا لوجه الله خالصا، متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
أما الاثنان: فيتكفران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى، ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح، والنظر الصحيح على جادة الحق.
وكذلك الفرد: يفكر فى نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه، وما استقر عنده من عادات العقلاء، ومجارى أحوالهم. والذى أوجب تفرقهم مثنى وفرادى، أن الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمى البصائر، ويمنع من الروية، ويخلط القول. ومع ذلك يقل الإِنصاف ويكثر الاعتساف: ويثور عجاج التعصب.
وقوله - سبحانه -: { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } كلام مستأنف جئ به لتنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المفترون من كونه قد أصيب بالجنون.
أى: اجتمعوا اثنين اثنين، أو واحدا واحدا، ثم تفكروا بإخلاص وروية فترون بكل تأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس به شئ من الجنون، إنما هو أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأفضلهم علما، وأحسنهم عملا، وأزكاهم نفسا، وأنقاهم قلبا، وأجمعهم لكل كمال بشرى.
وقوله - تعالى - { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بيان لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى: ليس به صلى الله عليه وسلم من جنون، وإنما هو نذير لكم، يحذركم ويخوفكم من العذاب الشديد الذى سينزل بكم يوم القيامة، إذا ما بقيتم على شرككم وكفركم، وهذا العذاب ليس بعيدا عنكم.
قال الإِمام ابن كثير:
"قال الامام أحمد: حدثنا بشير بن المهاجر، حدثنى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال:أيها الناس أتدرون ما مثلى ومثلكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: إنما مثلى ومثلكم كمثل قوم خافوا عدوا يأتيهم. فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشى أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه وقال: أيها الناس أوتيتم. أيها الناس وأتيتم..." .
وبهذا الاسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة جميعا، إن كادت لتسبقنى" .
ثم أمره - سبحانه - للمرة الثانية أن يصارحهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته إياهم إلى ما يسعدهم فقال: { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
أى: وقل لهم - أيها الرسول الكريم. بعد أن دعوتهم إلى التفكير الهادئ، المتأنى فى أمرك: إنى ما طلبت منكم أجرا على دعوتى إياكم إلى الحق والخير، وإذا فرض وطلبت فهو مردود عليكم. لأنى لا ألتمس أجرى إلا من الله - تعالى - وحده، وهو - سبحانه - على كل شئ شهيد ورقيب، ولا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء.
قال الآلوسى قوله: قل ما سألتكم من أجر، أى:مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة { فَهُوَ لَكُمْ } والمراد نفى السؤال رأسا، كقولك لصاحبك إن أعطيتنى شيئا فخذه، وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا: فما شرطية، مفعول { سَأَلْتُكُم } وقوله { فَهُوَ لَكُمْ } الجواب - وقيل هى موصولة، والعائد محذوف، ومن للبيان ودخلت الفاء فى الخبر لتضمنها معنى الشرط. أى: الذى سألتكموه من الأجر فهو لكم، وثمرته تعود إليكم.
ثم أمره - سبحانه - للمرة الثالثة، أن يبين لهم أنهم لا قدرة لهم على مجادلته أو محاربته، لأن الله - تعالى - قد سلحه بما ينصره عليهم فقال: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }.
وأصل القذف: الرمى بقوة وشدة والمراد به هنا: ما يوحيه الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن وتوجيهات وإلهامات، والباء فى قوله { بِٱلْحَقِّ } للسببية.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - إن ربى يلقى الوحى إلى وإلى أنبيائه، بسبب الحق الذى كلفهم بتبليغه إلى الناس، وهو - سبحانه - وحده علام الغيوب.
قال الجمل: ما ملخصه قوله: { يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } يجوز أن يكون مفعوله محذوفا، لأن القذف فى الأصل الرمى، وعبر به هنا عن الإِلقاء. أى: يلقى الوحى إلى أنبيائه بالحق، أى: بسبب الحق، أو متلبسا الحق.
ويجوز أن يكون التقدير: يقذف الباطل بالحق، كما قال - تعالى -
{ { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } }. ويجوز أن يكون المعنى: قل إن ربى يقضى ويحكم بالحق، بتضمين "يقذف" معنى يقضى ويحكم.
ثم أمره - عز وجل - للمرة الرابعة أن يبين لهم أن باطلهم سيزول لا محالة وسينتهى أمره انتهاء لن تقوم له بعد قائمة فقال - تعالى - { قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }.
والإِبداء: هو فعل الأمر ابتداء. والإِعادة: فعله مرة أخرى، ولا يخلو الحى منهما، فعدمها كناية عن هلاكه. كما يقول: فلان لا يأكل ولا يشرب، كناة عن هلاكه.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الكافرين، لقد جاء الحق المتمثل فى دين الإِسلام الذى ارسلنى به إليكم ربى، وما دام الإِسلام قد جاء، فإن الباطل المتمثل فى الكفر الذى أنتم عليه، قد آن له أن يذهب وأن يزول، وأن لا يبقى له أبداء أو إعادة، فقد اندثر وأهيل عليه بالتراب إلى غير رجعة.
ثم أمره - سبحانه - للمرة الخامسة أن يصارحهم بأنه مسئول أمام الله عما يرشدهم إليه، وأنهم ليسوا مسئولين عن هدايته أو ضلاله، فقال - تعالى -: { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي }.
أى: وقل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل الإِرشاد والتنبيه، إنى إن ضللت عن الصراط المستقيم، وعن اتباع الحق، فإنهما إثم ضلالى على نفسى وحدها لا عليكم، وإن اهتديت إلى طريق الحق والصواب، فاهتدائى بسبب ما يوحيه الله - تعالى - إلى من توجيهات حكيمة، وإرشادات قويمة، { إِنَّهُ } - سبحانه - { سَمِيعٌ } لكل شئ { قَرِيبٌ } منى ومنكم.
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة قد أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم خمس مرات، أن يخاطب المشركين بما يقطع عليهم كل طريق للتشكيك فى شأن دعوته، وبما يوصلهم إلى طريق الهداية والسعادة لو كانوا يعقلون:
وأخيرا نرى سورة "سبأ" تختتم بهذه الآيات، التى تصور تصويرا مؤثرا، حالة الكافرين عندما يخرجون من قبولهم للبعث والحساب، يعلوهم الهلع والفزع، ويحال بينهم وبين ما يشيتهون، لأن توبتهم جاءت فى غير أوانها... قال - تعالى -: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ...فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ }.