التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣
-فاطر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "فاطر" كما سبق أن ذركنا عند تفسيرنا لسورة "سبأ" بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين، وهى أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل، هو الله رب العالمين.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة وغيرها.
و"أل" فى الحمد للاستغراق. بمعنى أن المستحق لجميع المحامد، ولكافة ألوان الثناء هو الله - تعالى -.
وقوله: { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى خالقهما وموجدهما على غير مثال يحتذى، إذ المراد بالفطر هنا: الابتداء والاختراع للشئ الذى لم يوجد ما يشبهه من قبل.
قال القرطبى: والفاطر: الخالق، والفَطْر - بفتح الفاء -: الشق عن الشئ. يقال فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير، أى: طلع. وتفطر الشئ، أى: تشقق...
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدرى ما { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } حتى أتى أعرابيان يختصمان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتهما، أى: أنا ابتدأتها..
والمراد بذكر السماوات والأرض: العالم كله. ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء، قادر على الإِعادة.
والمعنى: الحمد المطلق والثناء التام الكامل لله - تعالى - وحده، فهو - سبحانه الخالق للسموات والأرض، ولهذا الكون بأسره، دون أن يسبقه إلى ذلك سابق، أو يشاركه فيما خلق وأوجد مشارك.
وقوله - تعالى -: { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - تعالى - التى لا يعجزها شئ.
والملائكة: جمع ملك. والتاء لتأنيث الجمع، وأصله ملاك. وهم جند من خلق الله - تعالى - وقد وصفهم - سبحانه - بصفات متعددة، منها: أنهم
{ { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم { { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } } { { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } }. قال الجمل: وقوله: جاعل الملائكة، أى: بعضهم. إذ ليس كلهم رسلا كما هو معلوم. وقوله: { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ } نعت لقوله { رُسُلاً }، وهو جيد لفظا لتوافقهما تنكيرا. أو هو نعت للملائكة، وهو جيد معنى إذ كل الملائكة لها أجنحة، فهى صفة كاشفة...
وقوله: { مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أسماء معدول بها عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وهى ممنوعة من الصرف، للوصفية والعدل عن المكرر وهى صفة لأجنحة.
أى: الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض بقدرته، والذى جعل الملائكة رسلا إلى أنبيائه. وإلى من يشاء من عباده، ليبلغوهم ما يأمرهم - سبحانه - بتبليغه إليهم..
وهؤلاء الملائكة المكرمون، ذوو أجنحة عديدة. منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، لأن المراد بهذا الوصف، بيان كثرة الأجنحة لا حصرها.
قال الآلوسى ما ملخصه قوله: { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً... } معناه: جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالته بالوحى والإِلهام والرؤيا الصادقة، أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه، كالأمطار والرياح وغيرهما.
وقوله: { مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معناه: أن من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا دلالة فى الآية على نفى الزائد، وما ذكر من عد للدلالة على التكثير والتفاوت، لا للتعيين ولا لنفى النصان عن اثنين..
فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود فى قوله - تعالى -
{ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح...
وقوله - تعالى -: { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله، من كمال قدرته، ونفاذ إرادته.
أى يزيد - سبحانه - فى خلق كل ما يزيد خلقه ما يشاء أن يزيده من الأمور التى لا يحيط بها الوصف، ومن ذلك أجنحة الملائكة فيزيد فيها ما يشاء، وكذلك ينقص فى الخلق ما يشاء، والكل جاء على مقتضى الحكمة والتدبير.
قال صاحب الكشاف: قوله { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } أى: يزيد فى خلق الأجنحة، وفى غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
والآية مطلقة تتناول كل زيادة فى الخلق: من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام الأعضاء، وقوة فى البطش، وحصافة فى العقل، وجزالة فى الرأى، وجرأة فى القلب، وسماحة فى النفس، وذلاقة فى اللسان، ولباقة فى التكلم، وحسن تأن فى مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف...
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى: إن الله - تعالى - لا يعجزه شيئ يريده، لأنه قدير على فعل كل شئ، فالجملة الكريمة تعليل لما قبلها من كونه - سبحانه - يزيد فى الخلق ما يشاء، وينقص منه ما يشاء.
وقوله - تعالى -: { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا... } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته وفضله على عباده.
والمراد بالفتح هنا: الإِطلاق والإِرسال على سبيل المجاز. بعلاقة السببية لأن فتح الشئ المغلق، سبب لإطلاق ما فيه وإرساله.
أى: ما يرسل الله - تعالى - بفضله وإحسانه للناس من رحمة متمثلة فى الأمطار، وفى الأرزاق، وفى الصحة.. وفى غير ذلك ، فلا أحد يقدر على منعها عنهم.
{ وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } أى: وما يمسك من شئ لا يريد إعطاءه لهم، فلا أحد من الخلق يستطيع إرساله لهم. بعد أن منعه الله - تعالى - عنهم.
{ وَهُوَ } - سبحانه - { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْحَكِيمُ } فى كل أقواله وأفعاله.
وعبر - سبحانه - فى جانب الرحمة بالفتح، للإِشعار بأن رحمته - سبحانه - من أعظم النعم وأعلاها، حتى لكأنها بمنزلة الخزائن المليئة بالخيرات، والتى متى فتحت أصاب الناس منها ما أصابوا من نفع وبر.
و { مِن } فى قوله { مِن رَّحْمَةٍ } للبيان. وجاء الضمير فى قوله: { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } مؤنثا، لأنه يعود إليه وحدها.
وجاء مذكرا فى قوله { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } لأنه يشملها ويشمل غيرها، أى: وما يسمك من رحمة أو غيرها عن عباده فلا يستطيع أحد أن يرسل ما أمسكه - سبحانه -.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ.. } }. وقوله - سبحانه -: { { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } }. قال ابن كثير: وثبت فى صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع راسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده. اللهم ربنا لك الحمد. ملئ السماوات والأرض. وملئ ما شئت من شئ بعد.. اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطى لما منعت.. ولا ينفع ذا الجد منك الجد - أى: ولا ينفع صاحب الغنى غناه وإنما الذى ينفعه عمله الصالح"
.. ثم وجه - سبحانه - نداء الى الناس. أمرهم فيه بذكره وشكره فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ... }.
والمراد من ذكر النعمة: ذكرها باللسان وبالقلب، وشكر الله تعالى عليها، واستعمالها فيما خلقت له.
والمراد بالنعمة هنا: النعم الكثيرة التى أنعم بها - سبحانه - على الناس. كنعمة خلقهم، ورزقهم، وتسخير كثير من الكائنات لهم.
والاستفهام فى قوله: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ } للنفى والإِنكار، أى: يأيها الناس اذكروا بألسنتكم وقلوبكم، نعم الله - تعالى - عليكم، واشكروه عليها. واستعملوها فى الوجوه التى أمركم باستعمالها فيها، واعلموا أنه لا خالق غير الله - تعالى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره، ويرزقكم من الأرض بالنبات والزروع والثمار وما يشبه ذلك من الأرزاق التى فيها حياتكم وبقاؤكم.
وقوله - تعالى - { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } جملة مستأنفة لتقرير النفى المستفاد مما قبله أى: لا إله مستحق للعبادة والطاعة إلا الله - تعالى -، إذ هو الخالق لكم، وهو الذى أعطاكم النعم التى لا تعد ولا تحصى.
{ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أى: وما دام الأمر كذلك: فكيف تصرفون عن إخلاص العبادة لخالقكم ورازقكم، إلى الشرك فى عبادته.
فقوله { تُؤْفَكُونَ } من الأفك - بالفتح - بمعنى الصرف والقلب يقال: أفكه عن الشئ، إذا صرفه عنه، ومنه قوله - تعالى -: { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.. } أى: لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا.
وبعد هذا البيان المعجز لمظاهر قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده، وهيمنته على شئون خلقه.. أخذت السورة الكريمة فى تسلية النبى صلى الله عليه وسلم وفى دعوة الناس إلى اتباع ما جاءهم به هذا النبى الكريم، وفى بيان مصير المؤمنين ومصير الكافرين، فقال - تعالى -: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ...عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }.