التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٣٣
وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
٣٤
ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ
٣٥
-فاطر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

و"ثم" فى قوله - تعالى -: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } للتراخى الرتبى. و { أَوْرَثْنَا } أى أعطينا ومنحنا، إذ الميراث عطاء يصل للإِنسان عن طريق غيره.
والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة.. وهو المفعول الثانى لأورثنا، وقدم على المفعول الأول، وهو الموصول للتشريف.
و{ ٱصْطَفَيْنَا } بمعنى اخترنا واستخلصنا، واشتقاقه من الصفو، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب.
والمراد بقوله: { مِنْ عِبَادِنَا } الأمة الإِسلامية التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس.
والمعنى: ثم جعلنا هذا القرآن الذى اوحيناه إليك - أيها الرسول الكريم - ميراثاً منك لأمتك، التى اصطفيناها على سائر الأمم، وجعلناها أمة وسطا. وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته.. وتسترشد بتوجيهاته، وتعمل بأوامره ونواهيه.
قال الآلوسى: قوله: { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } هم - كما قال ابن عباس وغيره - أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله - تعالى - اصطفاهم على سائر الأمم...".
وفى التعبير بالاصطفاء، تنويه بفضل هؤلاء العباد، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم، كما أن التعبير بالماضى يدل على تحقق هذا الاصطفاء.
ثم قسم - سبحانه - هؤلاء العباد إلى ثلاثة اقسام فقال: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ.. }.
وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة، تعد إلى أفراد هذه الأمة الإِسلامية.
وأن المراد بالظالم لنفسه، من زادت سيئاته على حسناته.
وأن المراد بالمقصد: من تساوت حسناته مع سيئاته.
وأن المراد بالسابقين بالخيرات: من زادت حسناتهم على سيئاتهم.
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله - تعالى - بعد ذلك: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا... } يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة، لأنهم جميعاً من أهل الجنة بفضل الله ورحمته.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه: الكافر، وعليه يكون الضمير فى قوله: { يَدْخُلُونَهَا } يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات، وأن هذه الآية نظير قوله - تعالى - فى سورة الواقعة: { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ.. }.
ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه: يقول - تعالى - ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم... وهم هذه الأمة على ثلاث أقسام: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو المفرط فى بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات. { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } وهو المؤدى للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات.
{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } وهو الفاعل للواجبات والمستحبات.
قال ابن عباس: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله - تعالى - كل كتاب أنزله. فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وفى رواية عنه: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله - تعالى -، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفى الحديث الشريف:
"شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى" .
وقال آخرون: الظالم لنفسه: هو الكافر.
والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير كما و ظاهر الآية، وكا جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً.
ثم أورد الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها: ما أخرجه الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى هذه الآية:
"هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم فى الجنة" .
ومعنى قوله "بمنزلة واحدة" أى: فى أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق فى المنازل فى الجنة".
وقال الإِمام ابن جرير: فإن قال لنا قائل: إن قوله { يَدْخُلُونَهَا } إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات؟
قيل له: وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولم لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد، وجب أن لا يكون لأهل الإِيمان وعيد.
قيل: إنه ليس فى الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله - تعالى - أنهم يدخلون جنات عدن: وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التى أصابها فى الدنيا... ثم يدخلون الجنة بعد ذلك، فيكون ممن عمه خبر الله - تعالى - بقوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }.
وقال الشوكانى: والظالم لنفسه: هو الذى عمل الصغائر. وقد روى هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأبى الدرداء، وعائشة. وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافى الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور... وجه كونه ظالماً لنفسه، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل تلك الصغائر طاعات، لكان لنفسه فيها من الثواب عظيماً....
قالوا: وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات. لا يقتضى تشريفاً، كما فى قوله - تعالى -
{ { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ.. } }. ولعل السر فى مجئ هذه الأقسام بهذا الترتيب، أن الظالمين لأنفسهم أكثر الأقسام عددا، ويليهم المقتصدون، ويليهم السابقون بالخيرات، كما قال - تعالى - { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } }. وقوله: { بِإِذُنِ ٱللَّهِ } أى: بتوفيقه وإرادته وفضله.
واسم الإِشارة فى قوله: { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء.
أى: ذلك الذى أعطيناه - أيها الرسول الكريم - لأمتك من الاصطفاء ومن توريثهم الكتاب، هو الفضل الواسع الكبير، الذى لا يقادر قدره، ولا يعرف كنهه إلا الله - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } والضمير للأنواع الثلاثة.
أى: هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمقتصدون والسابقون بالخيرات، ندخلهم بفضلنا ورحمتنا، الجنات الدائمة التى يخلدون فيها خلوداً أبدياً.
يقال: عدن فلان بالمكان، إذا أقام به إقامة دائمة.
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أى أنهم يدخلون الجنات دخولاً دائماً، وهم فى تلك الجنات يتزينون بأجمل الزينات، وبأفخر الملابس، حيث يلبسون فى أيديهم أساور من ذهب ولؤلؤا، أما ثيابهم فهى من الحرير الخالص.
ثم حكى - سبحانه - ما يقولونه بعد فوزهم بهذا النعيم فقال: { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ }.
والحزن: غم يعترى الإِنسان لخوفه من زوال نعمة هو فيها. والمراد به هنا: جنس الحزن الشامل لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة.
أى: وقالوا عند دخولهم الجنات الدائمة، وشعورهم بالأمان والسعاة والاطمئنان: الحمد لله الذى أذهب عنا جميع ما يحزننا من أمور الدنيا أو الآخرة.
{ إِنَّ رَبَّنَا } بفضله وكرمه { لَغَفُورٌ شَكُورٌ } أى: لواسع المغفرة لعباده ولكثير العطاء للمطيعين، حيث أعطاهم الخيرات الوفيرة فى مقابل الأعمال القليلة. { ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ } أى: الحمد لله الذى أذهب عنا الأحزان بفضله ورحمته، والذى { أَحَلَّنَا } أى: أنزلنا { دَارَ ٱلْمُقَامَةِ } أى: الدار التى لا انتقال لنا منها، وإنما نحن سنقيم فيها إقامة دائمة وهى الجنة التى منحها إياها بفضله وكرمه.
وهذه الدار { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أى: لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة ولا عناء. يقال: نصب فلان - كفرح - إذا نزل به التعب والإِعياء.
{ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أى: ولا يصيبنا فيها كَلال وإعياء بسب التعب والهموم، يقال: لَغَب فلان لَغبْاً ولُغُوباً. إذا اشتد به الإِعياء والهزال.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما الفرق بين النصَب واللُّغوب؟
قلت: النصب، التعب والمشقة، التى تصيب المنتصب للأمر، المزاول له.
وأما اللغوب، فما يلحقه من الفتور بسبب النَصب. فالنصب: نفس المشقة والكلفة. واللغوب: نتيجة ما يحدث منه من الكلال والفتور".
وبعد هذا البيان البليغ يشرح الصدور لحسن عاقبة المفحلين، ساقت السورة الكريمة حال الكافرين، وما هم فيه من عذاب مهين، فقال - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ...بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }.