التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٥
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤٦
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
٤٩
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
٥٠
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
٥١
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٢
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٥٣
فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٤
-يس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى -: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ... } حكاية لموقف المشركين من الناصحين لهم، ويكف أنهم صموا آذانهم عن سماع الآيات التنزيلية، بعد صممهم عن التفكر فى الآيات التكوينية.
أى: وإذا قال قائل لهؤلاء المشركين على سبيل النصح والإِرشاد: { ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } أى: احذروا ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر، وصونوا أنفسكم عن ارتكاب المعاصى التى ارتكبها الظالمون من قبلكم، فأهلكوا بسببها وأبيدوا، وآمنوا بالله ورسوله واعملوا العمل الصالح، لعلكم بسبب ذلك تنالون الرحمة من الله - تعالى -.
وجواب "إذا" محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا عن الناصح، واستخفوا به، وتطاولوا عليه.
ويشهد لهذا الجواب المحذوف قوله - تعالى - بعد ذلك: { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }.
و "من" الأولى مزيدة لتأكيد إعراضهم وصممهم عن سماع الحق، والثانية للتبعيض.
أى: ولقد بلغ الجحود والجهل والعناد عند هؤلاء المشركين، أنهم ما تأتيهم آية من الآيات التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فى دعوته، إلا كانوا عن كل ذلك معرضين إعراضا تاما، شأنهم فى ذلك شأن الجاحدين من قبلهم.
وأضاف - سبحانه - إليه الآيات التى أتتهم، لتفخيم شأنها، وبيان أنها آيات عظيمة، كان من شأنهم - لو كانوا يعقلون - أن يتدبروها، ويتبعوا من جاء بها.
ثم حكى - سبحانه - موقفا آخر، من مواقفهم القبيحة ممن نصحهم وأرشدهم إلى الصواب، فقال - تعالى -: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ... }.
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها: أن أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - كان يطعم مساكين المسلمين، فلقيه أبو جهل فقال له: يا أبا بكر: أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟
قال نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال أبو بكر: ابتلى - سبحانه - قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإِعطاء.
فقال أبو جهل: والله يا أبا بكر: إن أنت إلا فى ضلال، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم، ثم تطعمهم أنت.. فنزلت هذه الآية.
وقيل: كان العاصى بن وائل السهمى، إذا سأله المسكين قال له: اذهب إلى ربك فهو أولى منى بك. ثم يقول: قد منعه الله فأطعمه أنا..
والمعنى: وإذا قال قائل من المؤمنين لهؤلاء الكافرين: أنفقوا على المحتاجين شيئا من الخير الكثير الذى رزقكم الله - تعالى - إياه.
قال الكافرون - على سبيل الاستهزء والسخرية - للمؤمنين: هؤلاء الفقراء الذين طلبتهم منا أن ننفق عليهم، لو شاء الله لأطعمهم ولأغناهم كما أغنانا.
{ إِنْ أَنتُمْ } أيها المؤمنون { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فى أمركم لنا بالإِنفاق عليهم أو على غيرهم.
قال الشوكانى ما ملخصه: وقوله: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } حكاية لتهكم الكافرين، وقد كانوا سمعوا المؤمنين يقولون: إن الرزاق هو الله، وإنه يغنى من يشاء، ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإِلزام للمؤمنين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله. وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل، فإن الله - سبحانه - أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا، وأمر الغنى أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة، وقولهم: { مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } هو وإن كان كلاما صحيحا فى نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإِنكار لقدرة الله، وإنكار جواز الأمر بالإِنفاق مع قدرة الله، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا.
وقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } من تتمة كلام الكفار. وقيل: هو رد من الله عليهم.
ثم يحكى القرآن إنكارهم للبعث، واستهزاءهم بمن يؤمن به فيقول: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
أى: ويقول الكافرون للمؤمنين - على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالبعث - { مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ } الذى تعدوننا به من أن هناك بعثا، وحسابا وجزاء... أحضروه لنا { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما تعدوننا به.
وهنا يجئ الرد الذى يزلزلهم، عن طريق بيان بعض مشاهد يوم القيامة، فيقول - سبحانه -: { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }
المراد بالصيحة هنا: النفخة الأولى التى ينفخها إسرافيل بأمر الله - تعالى - فيموت جميع الخلائق.
وقوله { يَخِصِّمُونَ } أى: يختصمون فى أمور دنياهم. وفى هذا اللفظ عدة قراءات سبعية.
منها قراءة أبو عمرو وابن كثير: { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } - بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد مع الفتح - ومنها قراءة عاصم والكسائى: { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد مع الكسر.
ومنها قراءة حمزة { يَخِصِّمُونَ } بإسكان الخاء وكسر الصاد مع التخفيف.
أى: أن هؤلاء الكافرين الذين يستنكرون قيام الساعة، ويستبعدون حصولها، جاهلون غافلون، فإن الساعة آتية لا ريب فيها، وستحل بهم بغتة فإنهم ما ينتظرون { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } يصيحها إسرافيل بأمرنا، فتأخذهم هذه الصيحة وتصعقهم وتهلكهم { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أى: وهم يتخاصمون، ويتنازعون فى أمور دنياهم.
وعندما تنزل بهم هذه الصيحة، لا يستطيع بعضهم أن يوصى بعضا بما يريد أن يقول له ولا يستطيعون جميعا الرجوع إلى أهليهم، لأنهم يصعقون فى أماكنهم التى يكونون فيها عند حدوث هذه الصيحة.
فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أبلغ تصوير لأهوال علامات يوم القيامة، ولسرعة مجئ هذه الأهوال.
أخرج الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه - أي يسده بالطين - فلا يسقى منه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن ناقته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها" .
ثم بين - سبحانه - حالهم عند النفخة الثانية فقال: { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }.
والمراد بالنفخ هنا: النفخة الثانية التى يكون معها البعث والحساب.
والصور: القرن الذى ينفخ فيه إسرافيل، ولا يعلم كيفيته سوى الله - تعالى -:
والأجداث: جمع جَدَث - بفتحتين - كفرس وأفراس - وهى القبور.
وينسلون: أى: يسرعون بطريق الجبر والقهر لا بطريق الاختيار، والنَّسَلاَن: الإسراع فى السير.
أى: ونفخ فى الصور النفخة الثانية، فإذا بهؤلاء الكافرين الذين كانوا يستبعدون البعث وينكرونه، يخرجون من قبورهم سراعا - وبدون اختيار منهم - متجهين إلى ربهم ومالك أمرهم ليقضى فيهم بقضائه العادل.
{ قَالُواْ } بعد خروجهم من قبورهم بسرعة وفزع { يٰوَيْلَنَا } أى: يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.
ثم يقولون بفزع أشد: { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أى من أثارَنا من رقادنا، وكأنهم لهول ما شاهدوا قد اختلطت عقولهم، وأصيبت بالهول، فتوهموا أنهم كانوا نياما.
قال ابن كثير -رحمه الله - { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } يعنون قبورهم التى كانوا يعتقدون فى الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه فى محشرهم قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وهذا لا ينفى عذابهم فى قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده فى الشدة كالرقاد.
وقوله: { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } رد من الملائكة أو من المؤمنين عليهم، أو هو حكاية لكلام الكفرة فى رد بعضهم على بعض على سبيل الحسرة واليأس.
و "ما" موصولة والعائد محذوف، أى: هذا الذى وعده الرحمن والذى صدّقه المرسلون.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: إذا جعلت "ما" مصدرية، كان المعنى: هذا وعد الرحمن، وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله: { وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ }؟ إذا جعلتها موصولة؟
قلت: تقديره: هذا الذى وعده الرحمن، والذى صدقه المرسلون، بمعنى: والذى صدق فيه المرسلون، من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال...
ثم بين - سبحانه - سرعة امتثالهم وحضورهم للحساب فقال: { إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }.
أى: ما كانت النفخة التى حكيت عنهم آنفا { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } صاحها إسرافيل بإذننا وأمرهم فيها بالقيام من قبورهم { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ } دون أن يتخلف أحد منهم لدينا محضرون ومجموعون للحساب والجزاء.
{ فَٱلْيَوْمَ } وهو يوم القيامة { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } من الظلم، وإنما كل نفس توفى حقها.
وقوله - تعالى - { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أى: ولا تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملونه فى الدنيا، فالجملة الكريمة تأكيد وتقرير لما قبلها.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } وبعد هذا الحديث المتنوع عن أحوال الكافرين يوم القيامة، جاء الحديث عما أعده الله - تعالى - بفضله وكرمه للمؤمنين، وعما يقال للكافرين فى هذا اليوم من تبكيت وتأنيب فقال - تعالى -:
{ إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ... }.