التفاسير

< >
عرض

فَٱسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ
١٤٩
أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ
١٥٠
أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
١٥١
وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٥٢
أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ
١٥٣
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
١٥٤
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
١٥٥
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ
١٥٦
فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٥٧
وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
١٥٨
سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
١٥٩
إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
١٦٠
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
١٦١
مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ
١٦٢
إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ
١٦٣
وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ
١٦٤
وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ
١٦٥
وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ
١٦٦
وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ
١٦٧
لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
١٦٨
لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
١٦٩
فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
١٧٠
-الصافات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { فَٱسْتَفْتِهِمْ... } معطوف على قوله - تعالى - فى أوائل السورة { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ... } عطف جملة على جملة. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والاستفتاء: الاستخبار والاستفهام وطلب الفتيا من المفتى.
أى: أسأل - أيها الرسول - هؤلاء المشركين سؤال تقريع وتأنيب: { أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } أى: أسألهم بأى وجه من وجوه القسمة جعلوا لربك البنات وجعلوا لأنفسهم البنين؟ إن قسمتهم هذه لهى قسمة جائرة وفاسدة عند كل عاقل، لأنه لا يليق فى أى عقل أن يجعلوا لله - تعالى - الجنس الأدنى وهو جنس الإِناث، بينما يجعلون لأنفسهم الجنس الأعلى.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } قال صاحب الكشاف: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } معطوف على مثله فى أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث أولا. ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التى قسموها، حيث جعلوا لله الإِناث ولأنفسهم الذكور، فى قولهم الملائكة بنات الله، مع كراهتهم الشديدة لهن. ولقد ارتكبوا فى ذلك ثلاثة أنواع من الكفر:
أحدها: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام.
والثانى: تفضيل أنفسهم على ربهم، حيث جعلوا أوضع الجنسين له، وأرفعهما لهم.
والثالث: أنهم استهانوا بأكرم خلق الله، وأقربهم إليه، حيث أنثوهم. ولو قيل لأقلهم وأدناهم: فيك أنوثة، أو شكلك شكل النساء، للبس لقائله جلد النمور، ولا نقلبت حماليقه - أى: أجفان عينيه.
وقوله - سبحانه -: { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } تقريع آخر لهم على جهالاتهم وسفههم، حيث أضرب - سبحانه - عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه فى التبكيت والتأنيب.
أى: إنهم زعموا أنه لربك البنات ولهم البنون، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقنا الملائكة حتى يعرفوا أنهم إناث؟ كلا إنهم لم يكونوا حاضرين وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال: { وَهُمْ شَاهِدُونَ } فخص علم المشاهدة؟
قلت: ما هو إلا الاستهزاء بهم وتجهيل.. وذلك لأنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق علمه فى قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر.
ثم أخبر - سبحانه - عن كذبهم فقال: { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } والإِفك: أشنع الكذب وأقبحه. يقال: أفِك فلان كضرب وعلم - إِفْكا وأَفْكاً، إذا كذب كذبا فاحشا.
أى: ألا إن هؤلاء الكافرين. من شدة كذبهم، وشناعة جهلهم ليقولون زوراً وبهتانا: { وَلَدَ ٱللَّهُ } أى: اتخذ الله ولدا { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فى ذلك كذبا
{ تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } وافتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح "ألا" لتأكيد قولهم، وأنهم كانوا مصرين على هذا القول الذى لا نهاية لبطلانه.
ثم كرر - سبحانه - توبيخهم وتقريعهم فقال: { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } والاصطفاء: الاختيار والانتقاء. والاستفهام للإِنكار والنفى، أى: هل اختار الله البنات على البنين فى زعمهم؟ كلا إن الله - تعالى - لم: يفعل شيئا من ذلك لأنه - سبحانه - غنى عن العالمين.
{ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أى: أى شئ حدث لكم، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل.
وقوله: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }. معطوف على كلام محذوف والتقدير: أتجهلون هذه الأمور الواضحة، فلا تعقلون ولا تتذكرون ولا تعتبرون.
وقوله - تعالى - : { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ. فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } إضراب وانتقال من توبيخهم على جهالاتهم، إلى تحديهم وإثبات كذبهم.
أى: بل ألكم حجة واضحة على صحة هذا القول الذى قلتموه من أن الملائكة بنات الله؟ إن كانت عندكم هذه الحجة فأتوا بها إن كنتم صادقين فيما زعمتم.
فالمقصود بالآيتين الكريمتين تعجيزهم وإثبات المزيد من جهالاتهم وأكاذيبهم.
ثم حكى - سبحانه - زعما آخر من زعمهم فى شأن الملائكة فقال: { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }
والمراد بالجنة هنا: الملائكة. سمو بذلك لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين.
أى: أن المشركين لم يكتفوا بما قالوا فى الآيات السابقة، بل أضافوا إلى ذلك جريمة أخرى، وهى أنهم جعلوا بين الله - تعالى - وبين الملائكة نسبا، ولقد علمت الجنة، - أى الملائكة -، "إنهم" أى القائلون لهذه المقالة الباطلة "لمحضرون" أى: إلى العذاب يوم القيامة. ليذوقوا سوء عاقبة كذبهم.
قال القرطبى: أكثر أهل التفسير أن الجنة ها هنا الملائكة. عن مجاهد قال: قالوا - يعنى كفار قريش - الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهن؟ قالوا: مخدرات الجن... ومعنى "نسبا": مصاهرة. وقال قتادة: قالت اليهود إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهن.
وقال الحسن: أشركوا الشيطان فى عبادة الله، فهو النسب الذى جعلوه.
ثم نزه - سبحانه - ذاته عما افتروه فقال: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أى: تنزه الله - تعالى - وتقدس عما يقوله هؤلاء الجاهلون.
وقوله: { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } استثناء منقطع من قوله { لَمُحْضَرُون } وما بينهما جملة معترضة لتنزيه الله - تعالى - وتقديسه.
أى: والله لقد علمت الملائكة أن المشركين القائلين بهذا القول الفاسد لمحضرون إلى النار، ويُدَعُّون إليها دعا، لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ليسوا كذلك، بل هم ناجون من عذاب جهنم، لتنزيههم الخالق - عز وجل - عما لا يليق به.
ثم حقر - سبحانه - من شأن المشركين، ومن شأن آلهتهم المزعومة فقال: { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ .مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ .إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ }.
وهذا الكلام يجوز أن يكون حكاية لما رد به الملائكة على المشركين الذين قالوا الإِفك والزور قبل ذلك، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا من الله - تعالى - على سبيل الاستخفاف والتهكم بالمشركين وبآلهتهم.
والفاء فى قوله { فَإِنَّكُمْ } واقعة فى جواب شرط مقدر. و "الواو" فى قوله { وَمَا تَعْبُدُونَ } للعطف على اسم إن، أو بمعنى مع. و "ما" موصولة أو مصدرية. و "ما" فى قوله: { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } نافية والضمير فى "عليه" يعود على الله - عز وجل - والجار والمجرور متعلق "بفاتنين" والمراد بالفتن: هنا الإِفساد، من قولهم: فلان فتن على فلان خادمة. إذا أفسده. وجملة { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } خبر إن.
و { صال } - بكسر اللام - اسم فاعل منقوص - كقاض - مضاف إلى ما بعده. وحذفت ياؤه لالتقاء الساكنين.
والمعنى: إذا أدركتم - أيها المشركون - ما قلناه لكم. فثقوا أنكم أنك أنتم وآلهتكم لن تستطيعوا أن تضلوا أحدا هداه الله - تعالى - لكنكم تستطيعون أن تضلوا من كان من أهل الجحيم مثلكم.
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة، الاستخفاف بالمشركين وبآلهتهم، وبيان أن من هداه الله، تعالى - لا سلطان لهم عليه فى إغوائه أو إضلاله.
قال صاحب الكشاف: والضمير فى "عليه" لله - تعالى - ومعناه: فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله، إلا أصحاب النار الذين سبق فى علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم.
من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها وخيبها عليه..
ثم بين - سبحانه - أن الملائكة معترفون اعترافا تاما بطاعتهم لله - تعالى - وبمداومتهم على عبادته وتسبيحه فقال: { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ. وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ }
أى: لقد اعترف الملائكة بطاعتهم الكاملة لله - تعالى - وقالوا: وما منا أحد إلا له مقام معلوم فى عبادة الله - تعالى - وطاعته، وإنا لنحن الصافون أنفسنا فى مواقف العبودية والطاعة لله - عز وجل - وإنا لنحن المسبحون والمنزهون له - تعالى - عن كل مالا يليق به.
وقد ذكر الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه:
"أطَّتْ السماء وحق لها أن تَئِط - أى سمع لها صوت شديد - ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد" ، ثم قرأ: { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ }
ثم أخبر - سبحانه - عن حال المشركين قبل أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ. فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }.
و "إن" فى قوله { وَإِن كَانُواْ... } هى المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير محذوف.
والقائلون هم كفار مكة، والفاء فى قوله { فَكَفَرُواْ بِهِ } وهى الفصيحة الدالة على محذوف مقدر.
والمعنى إن حال هؤلاء الكافرين وشأنهم، أنهم كانوا يقولون قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أى: لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا عباد الله المخلصين أى: لكنا بسبب وجود هذا الكتاب من عباد الله الذين يخلصون له العبادة والطاعة.
فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين كما تمنوا وطلبوا، فكانت النتيجة أن كفروا به، فسوف يعلمون سوء عاقبة هذا الكفر،
{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره، وبتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه، فقال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا... }.