التفاسير

< >
عرض

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٥٠
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
٥١
يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ
٥٢
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ
٥٣
قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ
٥٤
فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ
٥٥
قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ
٥٦
وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ
٥٧
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
٥٨
إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
٥٩
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٠
لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ
٦١
-الصافات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: علام عطف قوله: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }؟
قلت؛ هو معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك:
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشاربين.
قال الشاعر:

وما بقيت من اللذات إلاأحاديث الكرام على المدام

فيقبل بعضهم على بعض { يَتَسَآءَلُونَ } عما جرى لهم وعليهم فى الدنيا. إلا أن جئ به ماضيا على عادة الله فى أخباره.
أى: أن هؤلاء العباد المخلصين، بعد أن أعطاهم الله ما أعطاهم من النعم، أقبل بعضهم على بعض { يَتَسَآءَلُونَ } فيما بينهم عن ذكرياتهم، وإذا بواحد منهم يقول لإخوانه - من باب التحدث بنعمة الله:
{ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أى: إنى فى الدنيا كان لى صديق ملازم لى، ينهانى عن الإِيمان - بالبعث والحساب، ويقول لى - بأسلوب التهكم والاستهزاء:
{ أَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } أى: أئنك - أيها الرجل - لمن المصدقين بأن هناك بعثا وحسابا، وثوابا وعقابا، وجنة ونارا.
ثم يضيف إلى ذلك قوله: { أَإِذَا مِتْنَا } وانتهت حياتنا فى هذه الدنيا، ووضعنا فى قبورنا { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } أى: وصارت أجسادنا مثل التراب ومثل العظام البالية.
{ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } أى: أئنا بعد كل ذلك لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى، ومجزيون بأعمالنا. فقوله - تعالى -: { لَمَدِينُونَ } من الدين بمعنى الجزاء، ومنه قوله - تعالى -:
{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } والاستفهام: للاستبعاد والإِنكار من ذلك القرين للبعث والحساب.
وهنا يعرض هذا المؤمن على إخوانه، أن يشاركوه فى الاطلاع على مصير هذا القرين الكافر بالبعث فيقول لهم: { هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } أى: هل أنتم مطلعون معى على أهل النار لنرى جميعا حال ذلك القرين الذى حكيت لكم حاله؟ والاستفهام للتخصيص، أى: هيا صاحبونى فى الاطلاع على هذا القرين الكافر.
{ فَٱطَّلَعَ } ذلك الرجل المؤمن ومعه إخوانه على أهل النار. فرآه فى سواء الجحيم، أى: فرأى ذلك الرجل الذى كان قرينه وصاحبه الملازم له فى الدنيا، ملقى به فى { سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } أى: فى وسط النار، وسمى الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى باقى الجوانب.
قال الآلوسى: واطلاع أهل الجنة على أهل النار، ومعرفة من فيها، مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله - تعالى - فيهم حدة النظر، ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه.
ولعلهم - إن أرادوا ذلك - وقفوا على الأعراف. فاطلعوا على من أرادوا الاطلاع عليه من أهل النار. وقبل: إن لهم طاقات فى الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار، وعلم القائل بأن القرين من أهل النار، لأنه كان منكرا للبعث.
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله ذلك الرجل المؤمن لقرينه فى الدنيا بعد أن رآه فى وسط الجحيم فيقول. { قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ }.
وقوله: { تَٱللَّهِ } قسم فيه معنى التعجب، و { إن } مخففة من الثقيلة. واللام فى قوله: { لَتُرْدِينِ } هى الفارقة بين إن المخففة والنافية، والجملة جواب القسم، وتردين: أى تهلكنى يقال: أردى فلان فلانا إذا أهلكه. ورَدِىَ فلان - من باب رَضِىَ - إذا هلك.
و { ٱلْمُحْضَرِينَ } من الإحضار، يقال: أُحْضِر المجرم ليلقى جزاءه، وهذا اللفظ يستعمل عند الإِطلاق فى الشر، إذ يدل على السوق مع الإِكراه والقسر.
أى: قال الرجل المؤمن لقرينه الملقى فى وسط جهنم، وحق الله - تعالى - لقد كدت أيها القرين أن تهلكنى بصدك إياى عن الإِيمان بالبعث والحساب ولولا نعمة ربى علىّ، حيث عصمنى من طاعتك، ووفقنى للإِيمان.. لكنت اليوم من الذين أحضروا للعذاب مثلك ومثل أشباهك، ولساقنى ملائكة العذاب إلى هذا المصير الأليم الذى أنت فيه اليوم، فحمدا لله - تعالى - على الإِيمان والهداية.
وقوله - تعالى -: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } بيان لما يقوله هذا الرجل المؤمن لأصحابه الذين معه فى الجنة، وبعد أن انتهى من كلامه مع قرينه.
وهذا الكلام يقوله على سبيل التلذذ والتحدث بنعمة الله عليهم.
والاستفهام للتقرير، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام، والمعطوف عليه محذوف.
والمعنى: أنحن مخلدون فى هذا النعيم، ولن يلحقنا موت مرة أخرى بعد موتتنا الأولى التى لحقتنا فى الدنيا، ولن يصيبنا شئ من العذاب كما أصاب غيرنا؟
إننا لنشعر جميعا بأننا لن نموت مرة أخرى، وسنبقى فى هذا النعيم الدائم بفضل الله ورحمته.
وبعضهم يرى أن هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت.
قال القرطبى: قوله: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ }: هو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: "يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت".
والإِشارة فى قوله - تعالى -: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } لما سبق الإِخبار به من نفى الموت والعذاب عن أهل الجنة، وهذا القول - أيضا - حكاية لما يقوله ذلك المؤمن لمن معه فى الجنة، أى: إن هذا النعيم الدائم الذى نحن فيه - يا أهل الجنة - لهو الفوز العظيم، الذى لا يدانيه فوز، ولا يقاربه فلاح.
ثم يقول لهم - أيضا -: { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ } أى: لمثل هذا العطاء الجزيل، والنعيم المقيم، فليعمل العاملون، لا لغير ذلك من الأعمال الدنيوية الزائلة الفانية.
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على البون الشاسع. بين النعيم المقيم الذى يعيش فيه عباد الله الملخصون. وبين الشقاء الدائم الذى يعيش فيه الكافرون، فقال - تعالى -:
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ... }.