التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ
١٢
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ
١٣
إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
١٤
وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
١٥
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - تعالى -: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ... } استئناف مقرر لوعيد قريش بالهزيمة. ولوعد المؤمنين بالنصر، وتأنيث قوم باعتبار المعنى، وهو أنهم أمة وطائفة.
أى: ليس قومك - يا محمد - هم أول المكذبين لرسلهم، فقد سبقهم إلى هذا التكذيب قوم نوح، فكانت عاقبتهم الإِغراق بالطوفان.
وسبقهم - أيضا - إلى هذا التكذيب قوم عاد، فقد كذبوا نبيهم هودا، فكانت عاقبتهم الإِهلاك بالريح العقيم. التى ما أتت على شئ إلا جعلته كالرميم.
وقوله: { وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } معطوف على ما قبله أى: وكذب - أيضا - فرعون رسولنا موسى - عليه السلام - .
وقوله: { ذُو ٱلأَوْتَادِ } صفة لفرعون. والأوتاد: جمع وتد، وهو ما يدق فى الأرض لتثبيت الشئ وتقويته.
والمراد بها هنا: المبانى الضخمة العظيمة، أو الجنود الذين يثبتون ملكه كما تثبت الأوتاد البيت، أو الملك الثابت ثبوت الأوتاد.
قال الآلوسى ما ملخصه: والأصل إطلاق ذى الأوتاد على البيت المشدود والمثبت بها، فشبه هنا فرعون فى ثبات ملكه.. ببيت ثابت ذى عماد وأوتاد..
أو المراد بالأوتاد الجنود: لأنهم يقولون ملكه كما يقوى الوتد الشئ. أو المراد بها المبانى العظيمة الثابتة.
ويصح أن تكون الأوتاد على حقيقتها فقد قيل إنه كان يربط من يريد قتله بين أوتاد متعددة، ويتركه مشدودا فيها حتى يموت..
أى: وفرعون صاحب المبانى العظيمة، والجنود الأقوياء، والملك الوطيد... كذب رسولنا موسى - عليه السلام -، فكانت عاقبة هذا التكذيب أن أغرقناه ومن معه جميعا من جنوده الكافرين.
وكذب - أيضا - قوم ثمود نبيهم صالحا، وقوم لوط نبيهم لوطا، وأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب. كذبوه كذلك - فكانت نتيجة هذا التكذيب الإِهلاك لهؤلاء المكذبين - كما قال - تعالى -:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } والإِشارة فى قوله - تعالى -: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ } تعود إلى هؤلاء الأقوام المكذبين لرسلهم وسموا بالأحزاب، لأنهم تحزبوا ضد رسلهم، وانضم بعضهم إلى بعض فى تكذيبهم، ووقفوا جميعا موقف المحارب لهؤلاء الرسل الكرام.
وقوله - سبحانه - { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } استئناف مقرر لما قبله من تكذيب هؤلاء الأقوام لرسلهم، وبيان للأسباب التى أدت إلى عقاب المكذبين.
و "إن" هنا نافية، ولا عمل لها لانتقاض النفى بإلا. و "إلا" أداة استثناء مفرغ من أعم الصفات أو الأحكام: وجملة { كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ } فى محل رفع خبر "كل".
أى: ليس لهؤلاء الأقوام من صفات سوى تكذيب الرسل، فكانت نتيجة هذ التكذيب أن حل بهم عقابى وثبت عليهم عذابى. الذى دمرهم تدميرا.
والإِخبار عن كل حزب من هذه الأحزاب بأنه كذب الرسل، إما لأن تكذيب كل حزب لرسوله يعتبر من باب التكذيب لجميع الرسل لأن دعوتهم واحدة، وإما من قبيل مقابلة الجمع بالجمع، والمقصود تكذيب كل حزب لرسوله.
وقد جاء تكذيبهم فى الآية السابقة بالجملة الفعلية { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ... } وجاء فى هذه الآية بالجملة الأسمية: لبيان إصرارهم على هذا التكذيب، ومداومتهم عليه، وإعراضهم عن دعوة الرسل لهم إعراضا تاما.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ }. بيان للعذاب المعد للمشركين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم بعد بيان العقاب الذى حل بالسابقين.
والمراد بالصيحة هنا: النفخة الثانية التى ينفخها إسرافيل فى الصور، فيقوم الخلائق من قبورهم للحساب والجزاء.
وقيل المراد بها النفخة الأولى، وضعف هذا القول بأنهم لن يكونوا موجودين وقتها حتى يصعقوا بها..
وينظرون هنا بمعنى ينتظرون. وجعلهم - سبحانه - منتظرين للعقاب مع أنهم لم ينتظروه على سبيل الحقيقة للإِشعار بتحقق وقوعه، وأنهم بصدد لقائه، فهم لذلك فى حكم المنتظرين له.
أى: وما ينتظر هؤلاء المشركون الذين هم أمثال المهلكين من قبلهم، { إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } أى: نفخة واحدة ينفخها إسرافيل
{ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } وهذه النفخة { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أى: ليس لها من توقف وانتظار حتى ولو بمقدار فواق ناقة وهو الزمن الذى يكون بين الحلبتين، أو الزمن الذى يكون فيه رجوع اللبن فى الضرع بعد الحلب.
والمقصود بيان أن هذه الصيحة سريعة الوقوع، وأنها لن تتأخر عن وقتها، وأنها صيحة واحدة فقط يتم بعدها كل شئ يتعلق بالبعث والجزاء.
قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه: قوله: { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } يجوز أن يكون قوله { لَهَا } رافعا لقوله: { مِن فَوَاقٍ } على الفاعلية لاعتماده على النفى.
وأن يكون جملة من مبتدأ وخبر، وعلى التقديرين فالجملة المنفية صفة لصيحة، ومن مزيدة..
والفواق - بفتح الفاء وضمها - الزمان الذى بين حلبتى الحالب ورضعتى الراضع - والمعنى: ما لها من توقف قدر فواق ناقة. وفى الحديث:
"العيادة قدر فوق ناقة" .
. ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة، ببيان ما جبل عليه هؤلاء المشركون من جهالات وسفاهات، حيث تعجلوا العقاب قبل وقوعه بهم، فقال - تعالى -: { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ }.
والقطُّ: النصيب والقطعة من الشئ. مأخوذ من قط الشئ إذا قطعه وفصله عن غيره. فهم قد أطلقوا القطعة من العذاب على عذابهم، باعتبار أنها مقتطعة من العذاب الكلى المعد لهم ولغيرهم.
أى: وقال هؤلاء المشركون الجاهلون يا ربنا { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أى عجل لنا نصيبنا من العذاب الذى توعدتنا به، ولا تؤخره إلى يوم الحساب.
وتصدير دعائهم بنداء الله - تعالى - بصفة الربوبية، يشعر بشدة استهزائهم بهذا العذاب الذى توعدهم الله - تعالى - به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونسب - سبحانه - القول إليهم جميعا مع أن القائل هو النضر بن الحارث، أو أبو جهل.. لأنهم قد رضوا بهذا القول، ولم يعترضوا على قائله.
وقيل المراد بقوله - تعالى -: { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا.. } أى: صحائف أعمالنا لننظر فيها قبل يوم الحساب.
وقيل المراد به: نصيبهم من الجنة أى: عجل لنا نصيبنا من الجنة التى وعد رسولك بها أتباعه، وأعطنا هذا النصيب فى الدنيا قبل يوم الحساب لأننا لا نؤمن بوقوعه.
وعلى جميع الأقوال، فالمراد بيان أنهم قوم قد بلغ بهم التطاول والغرور منتهاه، حيث استهزءوا بيوم الحساب، وطلبوا تعجيل نزول العذاب بهم فى الدنيا، بعد أن سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن عقوبتهم مؤجلة إلى الآخرة.
قال - تعالى -:
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وقال - سبحانه -: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ثم واصلت السورة الكريمة تسليتها للرسول صلى الله عليه وسلم حيث أمرته بالصبر، وذكرت له - بشئ من التفصيل - قصص بعض الأنبياء - عليهم السلام - وبدأت بقصة داود - عليه السلام - الذى آتاه الله الملك والنبوة قال - تعالى -:
{ ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ... }.